فلسطين المحتلة - خاص شبكة قُدس: لم يؤمن الشهيد سيف أبو لبدة بالمقاومة السلمية كطريقٍ يمكن أن يطرد المحتل، فقد رسم ابن مخيم "نور شمس" في طولكرم طريقًا سبقه إليه شهداء عبدوه بدمائهم المخضبة برائحة العزة والكرامة، سار على درب الشهيد نهاد البرغوثي الذي ذكره بمفتاح عبور ذات الطريق "احذروا الموت الطبيعي، ولا تموتوا إلا بين زخات الرصاص"، وهي الكلماتُ ذاتها التي وضعها سيف منهجًا في حياته.
أخذ سيف على عاتقه الثأر لدماء صديقه الشهيد عبد الله الحصري (23 عامًا) الذي استشهد برصاصة قناص إسرائيلي في اقتحام لقوات الاحتلال لمخيم جنين بينما كان شهر مارس/ آذار 2022 يفتح أولى صفحاته، دائمًا رأى سيف فلسطين من فوهة البندقية، فكانت رصاصاته تبعث الأمل أن جذوة المقاومة لم تخمد بعد، وأن بركان غضبها حتمًا سينفجر رغم الملاحقة والمطاردة.
ببزة عسكريةٍ يتسابق المقاومون بمخيم جنين على ارتدائها، جال سيف ورفيقاه خليل طوالبة وصائب عباهرة، في شوارع المخيم في عرضٍ عسكري لإحياء الذكرى العشرين لمعركة جنين التي حدثت في الثالث من أبريل/ نسيان 2002، حمل الثلاثة بنادقهم في يدٍ وفي الأخرى رفعوا صورة لأحد فرسان المعركة الشهيد "محمود طوالبة" أحد أبناء عمومة خليل وقائد سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في جنين.
بينما كان المخيم ينكس رايات الحداد ويعم الحزن في أروقته بعد ارتقاء شهيدين، استحضر سيف الذي جاء ضيفًا من "طولكرم" ورفاقه من أبناء المخيم صورًا لأبطالٍ هدموا "السور الواقي" وهو اسم العملية التي أطلقها الاحتلال عندما اجتاح المخيم آنذاك، مؤكدين أن الجيل الحالي لم يسقط راية المقاومة التي بقيت مشتعلة في المخيم وأن رياح الثورة ستغير على "كاسر الأمواج" وهو اسم أطلقه الاحتلال للتصدي لعمليات المقاومة المتصاعدة بالضفة الغربية المحتلة.
بعد انتهاء العرض، ظلت عيون الاحتلال تراقب الثلاثي المقاوم وتتبعت وحداته الخاصة تحركات مركبتهم، حتى تقابلوا وجهًا لوجه مع قوات الاحتلال التي نصبت كمينا لسيف ورفاقه قرب بلدة عرابة وخاضوا اشتباكًا أصيب فيه أربعة عناصر من وحدة "اليمام" الخاصة، واستشهد سيف ورفيقاه خليل وصائب، واعترف الاحتلال بشراسة المقاومين، الذين أقبلوا على القوة الخاصة بعدما اصطدمت المركبتان ببعضهما، فأبى المقاومون الثلاثة إلا أن يشتبكوا مع القوات الخاصة الإسرائيلية.
الطريق إلى جنين
عن آخر يوم جمعه بسيف، يقول وسام شقيق الشهيد أبو لبدة، في حديثه لـ "شبكة قدس": "لم يره أحد من العائلة في آخر ليلةٍ سواي، فقد قابلته فجر الجمعة، فجاء إلى البيت وأخذ ملابسه، واعتقدت أنه سيصلي الفجر ثم يذهب لبيته علمًا أنه يعيش بمفرده في بيت قديم للعائلة، لكن وبعد الصلاة أخبرني أنه سيذهب إلى جنين".
يقترب صوت شقيقه من تهديدات الاحتلال لسيف: "بعد الإفراج عنه من اعتقاله الأخير عام 2020، طارده الاحتلال، وتلقى أخي تهديدات متواصلة من ضباط جيش الاحتلال الذين كانوا يطلبون منه "ترك طريق المقاومة" وإلا سيقومون باغتياله، لكن تهديداتهم لم تردع أخي فقال لأحد الضباط: "اللي بدكم إياه اعملوه، وإذا قدرتم تطولوني هيني موجود".
بعد استشهاد عبد الحصري، لاحظ شقيقه اختلاف سيف كثيرًا فـ"منذ شهر لم نعد نراه إلا قليلاً، زاد التزامه بقراءة القرآن، لم تفارقه بندقيته دقيقة واحدة، ودائمًا تكون بقربه".
لم يخلو الأمر من جلسة مراجعة بين الشقيقين، يستحضرها وسام: "تحدثت معه لأنه أخي ونريد أن يبقى حيَّا ويعز علينا فراقه، لكنه رفض ذلك وقال لي: إن استشهدت ستفتخر بي؟، فيومها أدركت أنه لا جدوى من الحديث، وأنه ملح على الشهادة ويريدها فنالها، وها نحن اليوم نفتخر به كما قلت له في حياته".
ثلاثون يومًا
ثلاثون يومًا، كانت المسافة الفاصلة بين استشهاد عبد الله وسيف، لكنها لم تمر مرور الكرام على الاحتلال، يعرض شقيقه جانبًا مما عرفه: "لم يعد جيش الاحتلال يقتحم منزلنا كما في السابق، بل حدث العكس فكان أخي يهاجم جيش الاحتلال ويشتبك معهم، في إحدى الاشتباكات والتي حدثت بدوار الشويكي اعترف الاحتلال بإصابة جندي، وكذلك اعترف بأربع إصابات عند استشهاد أخي".
تعرض سيف إحدى مقاومي سرايا القدس، لاعتقالين لمدة عامين، فسجنه الاحتلال بالمرة الأولى عام 2016 وأفرج عنه في 2017، ثم أعاد اعتقاله عام 2019 وأفرج عنه 2020، وطالبه الاحتلال بتسليم نفسه بالفترة الأخيرة لما يسمى بـ "المقابلة"، وكان يرفض ذلك، وأصر على الاستشهاد ورفض العودة إلى السجون التي وصفها بـ المُذلة التي ذاق فيها ألوان العذاب المختلفة.
عاش سيف بعيدًا عن بيت عائلته، سالكًا أقرب الطرق المؤدية إلى الشهادة، يقول شقيقه بينما كان المعزون يقطعون حديثه المتواصل معنا: "كنا نعلم أنه لا يريد أن يؤذي أي أحد من العائلة، فعاش في بيت بمفرده حتى لا يتسبب بأي مكروه لأحدنا، أخي كان شهمًا شجاعًا يقف مع المظلوم انحاز للفقراء وكان لا يحب أن يتعرضوا للأذية من أحد".
سيف صاحب الشخصية القوية، التي قطع بها جبروت جيش الاحتلال بالمنطقة في كل مرة خرج من غمده غاصبًا، اعترف الاحتلال بشراسته وجرأته، فقد أصيب في رصاصاته أفضل المقاتلين في نخبة جيش الاحتلال، لكن خلف هذه الشخصية القوية اختفت شخصية أخرى يفصح عنها لـ "شبكة قدس" صديقه محمود قائلا: "في جلساتنا كان ضحوكًا متبسمًا دومًا، وكان دائمًا يذهب لحل الخلافات الاجتماعية في مخيم نور شمس، ويقول لنا افعلوا الخير ولا تنتظروا الجميل، دائمًا يوصينا بإصلاح العلاقة مع الله، وفي آخر فترة كان يقول لنا أريد الاستشهاد ويلح في ذلك حتى نالها".
بينما تسابق الصائمون إلى مائدة السحور في اليوم الأول من رمضان بعد ثبوت ميلاد هلال شهر رمضان، سطعت أسماءُ خليل وصائب وسيف في سماء الوطن معلنة ميلاد أبطال نذروا أنفسهم وأرواحهم لأجل فلسطين، دوَّخوا الاحتلال في شوارع جنين وارتقوا شهداء.
"هنا جنين" عبارة كتبت من من الرصاصات الفارغة التي بقيت في ساحة الاشتباك مع القوة الخاصة، وحولها بقع دماء ارتوت منها فلسطين، وهي تبعث رسائل لقوات الاحتلال بكل وحداته أن الطريق إلى جنين ليس مفروشًا بالورود.