مع بداية جائحة كورونا، لجأت وزارة التربية والتعليم إلى استخدام التكنولوجيا في العملية التعليمية التعلمية كغيرها من وزارات التربية في المنطقة والعالم. كانت البداية متواضعة جدا وكان هذا متوقعاً وربما مقبولا لدى البعض نظراً للظرف المفاجئ وغياب الخبرة اللازمة لدى وزارة التربية والتعليم في هذا المجال. لكن الغريب في الموضوع، هو إصرار وزارة التربية والتعليم اليوم "سنة ثالثة كورونا"، على استخدام نفس منهجية التعلم الإلكتروني التي اتبعتها خلال الأشهر الأولى من الجائحة على الرغم من إدراكها بأن هذه المنهجية لا تمت بصلة لعمليتي التعليم والتعلم بالمفهوم العميق للكلمتين، وعلى الرغم من الأصوات الرافضة والمعترضة لهذه المنهجية بين صفوف المعلمين والمعلمات من جهة، وأهالي الطلبة من جهة أخرى. وإذا كانت الوزارة تعتقد بغير ذلك، فتلك مصيبة أخرى أشد وأعظم.
تستند منهجية التعلم الإلكتروني التي تتبعها الوزارة إلى عدد من الافتراضات: الافتراض الأول يقوم على أن ظروف الطلبة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية متشابهة، وأن العائلة الفلسطينية بالمتوسط لديها من جهازين إلى ثلاثة أجهزة حاسوب متصلة بالإنترنت خلال الفترة ما بين الثامنة صباحا والواحدة بعد الظهر، وأن كل العائلات الفلسطينية قادرة على ترك أطفالها بالمنزل وحدهم خلال هذه الفترة دون الأخذ بعين الاعتبار حقيقة عمل الوالدين خارج المنزل في معظم الأسر الفلسطينية. لوجود نساء عاملات.
الافتراض الثاني يقوم على أن التدريب الذي تلقاه المعلم الفلسطيني (حوالي 15 ساعة تدريبية) حول منهجية التعلم الالكتروني كافي لتمكينه من تصميم التعلم الالكتروني وتنفيذه وفق الممارسات التربوية الحديثة.
الافتراض الثالث يقوم على أساس أن منهجية التعلم الإلكتروني تقتصر فقط على تنفيذ دروس إلكترونية متزامنة تتطلب وجود المعلم وطلبته على المنصة الإلكترونية في نفس الوقت وأنه لا وجود لمنهجيات أخرى تعطي نتائج أفضل. أما الافتراض الرابع فيقوم على أن قناة فلسطين التعليمية التي أسستها وزارة التربية والتعليم تعطي فرصة للتعلم للطلبة الذين لا تتوفر لديهم فرصة الاتصال بالإنترنت. فيما يقوم الافتراض الخامس على أن "نموذج واحد يناسب الجميع" هو نموذج فعال وأن على الوزارة إقرار وفرض نموذج واحد على جميع المدارس والمعلمين والطلبة.
أقولها وبكل أسف: كل الافتراضات المذكورة أعلاه غير صحيحة. فلا أعتقد أن جميع العائلات الفلسطينية لديها القدرة على توفير أجهزة حاسوب متصلة بالإنترنت لكي يتعلم أبناؤهم بالطريقة التي تقرها وزارة التربية والتعليم. وأعتقد جازما أن البرنامج التدريبي الذي صممته ونفذته وزارة التربية والتعليم حول التعلم الإلكتروني (15 ساعة تدريبية) غير كافٍ حتى لإعطاء فكرة بسيطة عن مفهومه وأدواته ومنهجياته المختلفة.
أما اعتماد منهجية "الاتصال التكنولوجي المتزامن"، فأعتقد أنه من الأفضل دمجها مع التعلم الإلكتروني غير المتزامن والتي من خلالها يقوم المعلم بتصميم وحدات تعلمية ويتيح للطلبة فرصة التفاعل مع المحتوى التعلمي من جهة، والتفاعل مع بعضهم البعض ومع المعلم من جهة أخرى، وهذا النموذج لا يتطلب من كل الطلبة التواجد على المنصة الإلكترونية بنفس الوقت، فكل منهم يمكنه التعلم بالوقت المناسب له أو لها، وبهذه الطريقة لا يثقل كاهل العائلات بضرورة توفير أكثر من جهاز حاسوب بالبيت الذي عدد أفراد أسرته من الطلبة كبير نسبيا.
أما قناة فلسطين التعليمية فالحديث عنها يطول؛ فهي تقدم دروساً مجتزأة ومنزوعة من سياقها وتتصف بمحتوى مرتبك وطريقة عرض قاصرة ولا يمكن لها أن تقدم أكثر مما تقدمه الكتب المدرسية التي تعاني أصلاً من الهشاشة وتسطيح المعرفة ونشر الممارسات التربوية الخاطئة. ولهذه الأسباب وغيرها لا يمكن أن تكون هذه القناة، من وجهة نظري، بديلاً أو حتى مرادفاً لما هو مطلوب حقاً.
كان يجدر بوزارة التربية والتعليم أن تتخلى عن فكرة "نموذج واحد يناسب الجميع" وأن ظروف الطلبة متشابهة لأن هذه الفكرة ريما تناسب الوزارة لسهولة تطبيقها ولكنها لا تناسب الطلبة للأسف وهم الطرف الأهم في هذه المعادلة.
الأصل أن تطرح الوزارة عدة نماذج وتتبنى المدرسة وطواقمها الإدارية وكادرها التعليمي اختيار نموذج أو أكثر أو حتى الدمج بين هذه النماذج حسب ظروف المدرسة وطلبتها. هذه النماذج يجب أن تختلف بدرجة اعتمادها على التكنولوجيا. ولا مشكلة في أن يكون أحد النماذج اعتماد المعلم على الورقة والقلم وكتابة ملخص لوحدة معينة تحتوي على مصادر وأنشطة ومشاريع ومهمات تعلمية تشجعهم على الفهم والتفكير وممارسة المهارات الحياتية والإنتاج المعرفي.
كان من الممكن أن تقوم الوزارة بالتركيز على تطوير منهجية التعلم الإلكتروني وتطوير محتوى إلكتروني يساعد المعلمين في صنع المعاني وتعزيز الإنتاج المعرفي للطلبة ومهاراتهم الحياتية بدل الاكتفاء بتسليط الضوء على مبادرات وإنجازات أعتقد انها بعيدة كل البعد عن إحداث تغييرات جوهرية في التعليم والتعلم.
في مثل هذا الوضع الصعب والمعقد، المتوقع من الوزارة أن تقوم بقيادة العملية التعليمية عبر نسج شراكات حقيقية مع مؤسسات المجتمع المدني والجامعات ومؤسسات القطاع الخاص وتتعلم من تجاربهم وتجري حوارا وطنيا معهم من أجل الخروج بقرارات أكثر عمقا بدل التفرد بصناعة القرار فالتعليم مسؤولية الجميع خاصة عندما تكون الوزارة "سنة ثالثة كورونا" ولم تتعلم بعد!!