فيما يحيي الفلسطينيون الذكرى السنوية الـ34 لاندلاع انتفاضة الحجارة، تبدو الإشارة مهمة إلى السلوك الإسرائيلي تجاهها، وقد تمثل على الفور بإشهار القبضة الحديدية في وجه الفلسطينيين، وكان أقل ما يقال عنه إنه هستيري، بعد أن رأوها انتفاضة جماهيرية يقودها شباب، وتدعمها كل الجماهير، وساهمت التنظيمات السياسية بتأجيج لهيبها، بعد أن تسببت المهانة التي ولّدها استمرار الاحتلال، ومصادرة الأراضي، وضغطه المستمر لإجبار الناس للتعامل معه، والوضع الاقتصادي الذي عاشه غالبية الفلسطينيين، مما تسبب بغياب الأمل في أي حلّ سياسي.
لقد باغت اندلاع انتفاضة الحجارة الأوساط الإسرائيلية، لاسيّما العسكرية، وفاجأتهم قوتها وشموليتها واستمراريتها، وهي التي اعتقدت أن الاحتلال استطاع خلال عشرين عامًا أن يجعل من الضفة الغربية وقطاع غزة ملحقة به، ونجح في تحييد الغالبية العظمى من أهلهما، ولم يخطر بباله أن سكان المناطق سيجرؤون على تحدي سلطته العسكرية المطبقة عليهم بانتفاضة شعبية عارمة.
لقد أصاب الارتباك القيادة الإسرائيلية السياسية والعسكرية على حدٍّ سواء، لأنها لم تستطع تحديد طبيعة الانتفاضة بدقة: هل هي حرب؟ وإذا كانت كذلك، كيف يمكن التعامل معها، وبأي وسائل؟ وإذا كانت تمردًا، كيف يمكن وضع حدٍّ لها؟ أم هي نزاع طويل، وإلى متى سيستمر؟
كما ساد اتفاق في الحكومة والجيش على أن انتفاضة الحجارة هي حرب جديدة بقواعد مختلفة، ورفض معظم الوزراء اعتبارها نزاعًا طويلا، بل أراد معظمهم رؤيتها، وكأن بالإمكان القضاء عليها دفعة واحدة بحلٍّ عسكري، وثمة من رأى أن الانتفاضة هي حرب في كل شيء، وهي أسوأ وأصعب من جميع الحروب التي مرت بها "إسرائيل"، لأنها حرب متواصلة وطويلة، وقريبة من "بيتنا".
رغم كل لك، فقد بقيت القيادة الأمنية العسكرية الإسرائيلية غارقة في غطرستها، وأعماها جمودها الفكري وعنصريتها عن فهم الانتفاضة لحظة انفجارها، ولم تستطع رؤية الظواهر الجديدة في الحركة الشعبية الفلسطينية كما هي، ولم تقرأها بصورة موضوعية مجردة عن عنجهية المحتل، واكتفت بالتعامل معها باعتبارها تكراراً لأحداث تعودت عليها لسنوات طويلة.
بل إن أركان القيادة العسكرية الإسرائيلية ظنوا أن بإمكانهم السيطرة على الانتفاضة بسهولة خلال أيام معدودة بالأساليب والوسائل القديمة، هكذا كانوا مقتنعين، وهكذا كانت تقاريرهم للقيادة السياسية، وبسببها رفض "رابين" الأخذ بنصيحة بعض مستشاريه بقطع زيارته لواشنطن والعودة إلى تل أبيب لمعالجة الموقف، وشجعته على إطلاق تصريحات عنجهية من واشنطن قال فيها: بعد أيام سأعود إلى تل أبيب، وعندها ستنتهي حركة "الشغب" الجارية في المناطق المحتلة، لكنها استمرت سنوات طويلة، معلنة فشل كل تقديرات الاحتلال الاستخبارية، وتوقعاته الأمنية