هذا رأي شخصي أتمنى أن لا يتحمل أحد وزره، حاولت من خلاله التعليق على النقاش الدائر حول جدوى الإضرابات الفردية التي يلجأ لها المعتقلون الإداريون لنيل حريتهم أو على الأقل للحصول على قرار بتحديد تاريخ الإفراج. يبرر الرأي الداعي لمراجعة هذه الوسيلة طرحه في محاور عدة:
أولا: ساهمت الإضرابات الفردية في رفع سقف الإضرابات بشكل عام، والبديل إضراب جماعي.
ثانيا: شكلت الإضرابات ضغطا على الحاضنة الشعبية والتنظيمية، التي تأثرت إما بالاعتقال أو الاستهداف بسبب التضامن مع المضربين، وبعض القائمين على النشاطات المساندة قد تحولوا لمعتقلين إداريين.
ثالثا: إهلاك النفس بهذه الطريقة المؤذية، بينما النتائج ليست دائما بمقدار الطاقة التي وضعها الأسير في هذه المعركة من لحمه ووجعه وجوعه وأعضاء جسمه.
ومحاور أخرى لكن هذه أبرزها.
هذه الانطباعات أو المحاور تشكلت لدى كثيرون بسبب الصور التي انتشرت للمعتقلين الإداريين المضربين وهم في حالة صحية صعبة وملامح أكثر صعوبة. يتأثر الإنسان العادي المتلقي بهذه الصور إلى درجة أنه يتضامن معها عكسيا، فبدلا أن يبحث عن طرق للإسناد يبدأ بالبحث عن تضامن سلبي تحت شعار المراجعة، لكن وحتى نخرج من النظريات والقوالب الجاهزة لا بد من التأكيد على نقاط مهمة:
أولا: معركة الإضراب عن الطعام مؤذية للطرفين، الأسير ليس وحده من يدفع ثمنها، بل أيضا إدارة السجون. التكلفة العالية للمستشفيات الإسرائيلية أرهقت ميزانية إدارة مصلحة السجون في السنوات الأولى لهذه الظاهرة، الأسير الواحد قد يكلف وجوده في المستشفى ما لا يقل عن 200 ألف شيقل، أي أن إضراب 5 أسرى مثلا يكلف حوالي مليون شيقل، ولأنها مستشفيات قطاع خاص، فإنها تتعامل مع الأسير من ناحية تكاليف مادية كأي مريض آخر. هذا الأمر دفع مصلحة السجون للاحتجاج والمطالبة بتحمل وزارة الصحة أو الأمن الداخلي تكاليف العلاج، وهو ما حدث بالفعل. علينا مع كل حالة إضراب أن نعي أن هناك من يستنزف الاحتلال في هذا الجانب، وكلما زادت أيام الإضراب، كلما ارتفعت التكاليف، وبالتالي زيادة في الاستنزاف.
ثانيا: أثبتت عمليات التحقيق في عملية الهروب من سجن جلبوع أن مصلحة السجون تعاني من نقص في الكادر، وهو ما شكل لها أزمة كبيرة في توفير كادر حراسة للأسير المضرب داخل المستشفى، وكنا نلمس ذلك في السجن الذي فيه أكثر من مضرب. كان هذا أحد الأسباب التي دفعت إسرائيل إلى اللجوء لفكرة تجميد الاعتقال الإداري خلال وجود الأسير في المستشفى وبالتالي يصبح لا حاجة لوجود طاقم من مصلحة السجون، لكن هل تخلصت من عبء الحراسة بهذه الخطوة؟! في الحقيقة لا، فقد أوكلت المهمة للشرطة والشاباك، لمتابعة من يدخل ويخرج وماذا يحدث في غرفة الأسير ….الخ. هذا أيضا يحتاج لكادر وعمل مضاعف.
ثالثا: تخشى إسرائيل في كل معاركها، سواء مع أفراد أو جماعات، أن تخلق نموذج جذاب أو نموذج قدوة لدى العدو. عندما كانت تقع عملية وتتبعها عملية مطاردة لمنفذها، كثير من التقارير الإسرائيلية كانت تشير لمخاطر فكرة "القدوة"، أي أن يتحول الشخص إلى قدوة في بيئته. الأسرى المضربون عن الطعام بالنسبة لإسرائيل معضلة في هذا السياق، لأنهم تحولوا إلى نماذج لها علاقات واسعة وشهرة، وبعضهم أصبح معروفا عربيا ودوليا وناشطا يُستضاف ويُسمع له. بالإضافة إلى أن بعضهم أصبح رمزا ميدانيا في النشاطات الشعبية والإسنادية، وبكل الأحوال فإن تكاليف اعتقاله أصبحت أكبر من أي شخص عادي آخر، لأنه قد يكرر تجربة الإضراب حتى لا يكسر صورته التي بناها في الذهنية العامة.
رابعا: الإضراب عن الطعام بشكله الفردي، وضع حدا لاستسهال الشاباك في استخدام هذا النوع من الاعتقال. في السابق، كان مزاج ما يُعرف بضابط المنطقة واحدا من أسباب الاعتقال، حتى أن بعضهم كان يتصرف بنزعات شخصية ذاتية. اليوم أمر الاعتقال الإداري يُدرس بعناية وحذر أكثر، وتشارك في اتخاذه هيئات من الجيش والشاباك ودوائر "قانونية" من الطرفين. هذا الحذر النسبي في استخدام هذه الوسيلة ساهم في توسع نشاطات تنظيمية وشعبية في الضفة الغربية.
خامسا: الإضراب عن الطعام بشكله الفردي كاد أن يصل بالأمور إلى حافة التصعيد العسكري، وبالتالي كل سياسة الاعتقال الإداري أصبحت على طاولة المستويين الأمني والسياسي في إسرائيل، بعدما كانت ظاهرة يمارسها الإسرائيليون ولا يرونها.
سادسا: فعّل الإضراب الفردي قضايا الأسرى ككل، على الأقل إعلاميا، من حيث السرد والتعاطي وزوايا التغطية.
سابعا: ساهمت الإضرابات الفردية عن الطعام في إحراج المستوى الرسمي الفلسطيني، وكذلك الفصائلي، للاهتمام أكثر في قضايا الأسرى، ولفتت انتباه العالم تجاه قضايا الأسرى وإن كان بحد أدنى يحتاج لتطوير.
ثامنا: رغم أن الإعلام الفلسطيني يهتم بقضايا المضربين، إلا أنه كثف من المواد التي تثير عاطفة المتلقين شفقة وحزنا معتقدا أن هذا هو السبيل لحشد التضامن المحلي. في الحقيقة، تصوير المضرب على أنه مقاتل من أجل الحرية، وشخصية تتحدى الاحتلال في قلب تحصيناته الأمنية أيضا مطلوب في عملية التغطية، لأن شعبنا الذي عانى كثيرا من الحزن والتراجيديات، يتضامن أيضا مع القوة والإصرار، ونموذج التضامن الشعبي مع أسرى نفق جلبوع الستة مثال حي.
تاسعا: إسناد الأسرى الذين يخوضون الإضراب عن الطعام هو فرصة لكل الفصائل للحشد وإعادة تنشيط الروابط الاجتماعية التنظيمية، لكن حتى اللحظة فشلت الفصائل في هذه المهمة، واكتفت بالمشاركة الرمزية.
عاشرا: على المستوى القيمي، عندما تفشل المنظومة ككل أن تتخذ قرارا في المواجهة، لا يُدان المرء إن قرر أن يواجه مستندا إلى عزيمته وحقه في الحرية. إن الحرية هي أساس معركتنا في كل شيء، الحرية من السجن، الحرية في الوطن.