فلسطين المحتلة - خاص قدس الإخبارية: محطة النقل العمومي التي تقع في منتصف مدينة ما، يستطيع أي شخص أن يصل لها. عدد الحافلات المتوقفة فيها، أو تلك التي غادرت في فترة زمنية محددة، ليست أسرارا خطيرة، لكن إذا سألك شخص عن عدد الحافلات، يصبح الافتراض الأساسي أنك تتعامل مع أسرار، وأن الإفصاح عن عدد الحافلات هو عمل تجسسي سري، هذه واحدة من أبسط وأعقد النظريات الأمنية في تجنيد العملاء، والتي يشرف عليها من يطلق عليهم في "مجتمع الاستخبارات" بـ"ضباط الحالة".
مصطلح "ضباط الحالة" أثير في عدة قضايا متعلقة بالكشف عن شبكات تعمل لصالح الموساد الإسرائيلي، ومنها التي كشف عنها في تركيا في أكتوبر 2021، وتركزت مهمتها في جمع المعلومات عن الطلبة الفلسطينيين وعلاقتهم بالمؤسسات التركية والجهات التي تقدم لهم المساعدات. وتركز النقاش العام حول أمرين مهمين في سياق القضية: الأول، طبيعة المعلومات المقدمة والتي لا تشير إلى معلومات حساسة أو خطيرة تستهدف المقاومة أو مسائل ذات طابع أمني سياسي. الثاني، طريقة تقديم المعلومات والتي على الأقل في واحدة من الإفادات يظهر أنها كانت تحت غطاء بحثي وصحفي في كثير من الأحيان.
يدرك "مجتمع الاستخبارات" الإسرائيلي أن تجنيد العملاء ليس علاقة عاطفية، فلا يمكن الاعتماد على قاعدة "حب من أول نظرة" في عالم تجنيد العملاء، أي أنه من الصعب تجنيد عميل من بيئة العدو من خلال التوجه المباشر له والإفصاح عن طبيعة العلاقة والمهمة المطلوبة منه، إلا في حالات استثنائية يكن فيها الشخص لديه استعداد أيديولوجي للعمل لصالح الاستخبارات الإسرائيلية، وهذا أمر نادر وغير متاح، ويحمل مخاطر كبيرة خاصة إذا ما كان الشخص بمثابة طُعم من قبل الهيئات الاستخباراتية لدى العدو.
يصنف "ضباط الحالة" الإسرائيليون العملاء إلى ثلاث أصناف أساسية مرتبطة بمراحل العمل والإدراك:
عملاء مكتملون: هذا النوع من العملاء أدرك الجهة التي يعمل لصالحها، وفي المقابل تأكد "ضباط الحالة" من أنه شخص موثوق، ومستعد للقيام بعمليات خطيرة وخاصة، وهذا النوع ينفذ مهام تتعلق بـ:
أولا: المهمات القتالية، كالاغتيال أو الاختطاف أو سرقة ملفات سرية.
ثانيا: تجنيد عملاء آخرين، وإدارة شبكات تجسس.
عملاء تحت التطوير: هذا النوع من العملاء أدرك خطورة العمل الذي يقوم به، لكن لا يدرك طبيعة الجهة التي يزودها بالمعلومات، ولم يتأكد "ضباط الحالة" من موافقته على الاستمرار في العمل إذا كشف الجهة التي يعمل لصالحها. هذا النوع، يعمل "ضباط الحالة" على مراقبته من خلال "عملاء مكتملين"، ويعملون على "تسخين" مهامه وزيادة خطورتها مع مرور الوقت. ويشمل هذا النوع غالبا:
أولا: دبلوماسيون واقتصاديون ومسؤولو أحزاب وأشخاص مؤثرون اجتماعيا، ويتم الوصول لهم من خلال مداخل صحفية أو أزمات تعرضوا لها تتعلق بطبيعة عملهم، أو قضايا تتقاطع مع مجالات عملهم.
ثانيا: أشخاص عاديون، لكنهم قادرون على الوصول لمعلومات مهمة، مثل حارس على مؤسسة مهمة، أو حارس شخصي لشخصية مهمة، أو مسؤول ناشئ في قطاع معين. هذا النوع، يتم الوصول له غالبا من خلال دوائر اجتماعية أو مهنية عبر "عميل مكتمل".
ثالثا: أشخاص يعملون في قطاعات مهنية مختلفة، لكن بعد جمع معلومات عنهم، قدّر "ضباط الحالة" أنه يمكن تجنيدهم كعملاء، وهؤلاء في العادة يتم منحهم إمكانيات للوصول إلى مراتب عليا.
رابعا: أشخاص عاديون ليس لديهم إمكانية للوصول إلى معلومات أو التأثير مستقبلا، وهذا النوع يصبح عنصرا في الوحدات التنفيذية القتالية بعد أن يصنف كـ"عميل مكتمل". المداخل لهذا النوع، تمكن في حاجاته الملحة، واهتماماته.
العملاء السلبيون: هذا النوع من العملاء يقدّر "ضباط الحالة" أنه لا يمكن له التعاون مع الاستخبارات، ولديه موقف حاد غير قابل للتغيير من هذه المسألة، لكن أهميته ودوره والمعلومات التي بحوزته يحتم على الاستخبارات الإسرائيلية تجنيده بطريقة غير مباشرة، فيتم التعامل معهم ضمن عدة مسارات:
الأول: ربطه مباشرة بمراكز أو هيئات أو مؤسسات تقع في مجال عمله واهتمامه، مثلا إذا كان باحث في مجال الطب، قد يأتيه مقترحات عمل في هذا المجال، ومن ثم خلال العمل يتم توجيه "عملاء مكتملون" لبناء علاقات شخصية معه تصل حد الثقة والانفتاح.
ثانيا: توكيل "عميل مكتمل" لبناء علاقة شخصية مع "العميل السلبي"، على أن يكون "العميل المكتمل" من نفس المجال، وأن يراعي توقيت مناسب لبدء هذه العلاقة بعيدا عن الإطار المؤسسي السابق. وهذا الأسلوب شائع على وسائل التواصل الاجتماعي.
ثالثا: علاقة الاستخبارات مع "العميل السلبي" لا يجب أن يكتشفها للطرف الأخير من أجل ضمان الحصول على معلومات من خلاله، وتوسيع دائرة العلاقات معه سواء من خلال عدة مؤسسات أو أشخاص، وإتاحة كل الإمكانيات أمام هذه العلاقة لكي تبقى مستمرة.
عملاء الدعم: تكمن مهمتهم في توفير المساعدة والدعم العمليات التجسسية المختلفة، وقد يتضمن هذا النوع من العملاء "عملاء مكتملين وتحت التطوير وسلبيين":
أولا: توزيع المال سواء من خلال نقاط ميتة أو مؤسسات مالية.
ثانيا: توفير المعدات المناسبة.
ثالثا: توفير معلومات حول البيئة الثقافية والاجتماعية العامة.
أما الشخص المستهدف أو العميل المفترض، يخضع لعدة اختبارات في ما يتعلق بالمعلومات التي يقدمها، وذلك من خلال عدة طرق أبرزها:
الطلب من العميل معلومات موجودة أصلا لدى جهاز الاستخبارات، ومقارنة معلوماته بتلك الموجودة.
تركيز العميل على المصادر المفتوحة في الحصول على المعلومات، وهذا ينذر بأنه غير مستعد للبحث أو المخاطرة.
المعلومات التي يقدمها صحيحة، لكنها قديمة جدًا أو غير ذات قيمة، وهذا يعني أنه قد يكون موجه من جهاز استخبارات آخر.
إذا قدم العميل معلومات غير دقيقة عن تفاصيل حياته الاجتماعية.
وسائل تكنولوجية مثل تحليل الإجهاد الصوتي.
إن اتخاذ قرار بتجنيد عميل تحت أي تصنيف من التصنيفات السابقة، يخضع لعدة مراحل أهمها مرحلة جمع المعلومات عن الشخص المستهدف، والتي تتم بعدة طرق منها:
المعلومات المفتوحة أو المنشورة، مثلا الشخصيات العامة أو المؤثرة يتوفر حولها معلومات مكشوفة.
معلومات العملاء، والذين تربطهم بالشخص المستهدف إما علاقات مهنية أو اجتماعية أو معرفة غير مباشرة.
معلومات من خلال مواقع التوظيف أو الباحثين عن العمل، وهي متوفرة على الانترنت، إن تسجيل بعض الأشخاص في هذه المواقع أو إرسال سيرهم الذاتية، يمنح المخابرات قوائم من الأسماء التي تخضع للتدقيق وتفكيك العلاقات الاجتماعية والمهنية والمهارات التي يمتلكها الشخص وأيضا توفر عنصر الحاجة للعمل بشكل مبدئي.
معلومات من خلال إعلانات موجهة للتشغيل في وظائف وتخصصات مختلفة، مثلا: الإعلان عن وظيفة استشاري اقتصادي في مؤسسة ما، وفي بعض الأحيان يكون العمل في المرحلة اللاحقة وجاهي، وفي أحيان كثيرة غير وجاهي.
معلومات مركزة، وهي التي تظهر الحاجة لها خلال عمليات تجسسية معينة، فمثلا: إذا تطلب الأمر سرقة ملفات من مبنى محكمة أو زرع عميل فيها، فالأشخاص الذين يجب أن يتم جمع المعلومات عنهم هم الذي قد يكون لهم دور في هذه المهمة. وهذا النوع من المعلومات يمكن الحصول عليه من خلال الشبكات الاجتماعية والعملاء.
إن سبل الوقاية من الوقوع في أفخاخ الاستخبارات عديدة، ولا يمكن إحصائها كما لا يمكن إحصاء أساليب المخابرات في الإيقاع بالشخص المستهدف للعمل معها، ولكن يمكن ذكر بعض النقاط:
إن المعلومات مهما كانت متاحة وعادية، إلا أن طلب الحصول عليها من أي طرف كان هو أحد المحاذير التي يجب الانتباه لها.
إن العمل في مجال الأبحاث والتقارير أو التحقيقات الصحفية يجب أن يكون مع مؤسسات قائمة معروفة ومسجلة، وضمن عقد عمل يخضع للتدقيق.
تقديم المعلومات عن المجال الذي يعمل به الشخص أمر خطير، لا يكون إلا لجهات اختصاص معروفة ومكلفة رسميا وقانونيا بذلك.
طلبات التوظيف الإلكترونية ومواقع البحث عن العمل على الإنترنت قد توفر معلومات مهمة للاستخبارات الإسرائيلية.
من المعروف أن الاستخبارات الإسرائيلية تسعى لجمع معلومات عن الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم، وأي معلومة تُطلب في هذا السياق من أي جهة كانت، يجب أن تكون محل انتباه.
العلاقات الاجتماعية المفاجئة خطيرة في أغلبها.
تدير الاستخبارات الإسرائيلية معظم نشاطاتها في الخارج من الدول الغربية، ولأن هذا الأمر أصبح مكشوفا مفضوحا، قد تلجأ لإقامة مكاتب ومؤسسات صحفية أو بحثية أو غيرها في دول عربية، وتحديدا في دول التطبيع.
للاستخبارات الإسرائيلية تجربة كبيرة في مجال افتتاح المكاتب والمؤسسات الوهمية، حتى في دول لا تربطها بها علاقات دبلوماسية، فمثلا يوجد مكاتب لـ"الفوركس" في الكويت والسعودية وغيرها من الدول من خلال وكلاء محليين، وهذه في كثير من الأحيان تكون غطاء للعمل الاستخباراتي، لذلك فإن كل أنواع التعامل المالي أو الاجتماعي عبر الانترنت يحمل مخاطر كبيرة.
معظم اجتماعات ضباط الاستخبارات الإسرائيلية مع العملاء لا تتم داخل مؤسسات رسمية أو معروفة في الدولة التي تتم فيها الاجتماعات، فمثلا في قضية شبكة تركيا تم الاجتماع مع أحد العملاء في فندق، بينما أن مركز الأبحاث يجب أن يكون له مقر ومجموعة وموظفين، خاصة وأنه تم إبلاغ العميل أنه يعمل لصالح مركز أبحاث، وكانت هذه الملاحظة كافية للكشف عن خلل ما يعتري العلاقة.
المراسلات السليمة في عالم الأعمال تتم من خلال التطبيقات المعروفة، ويفضل أن تتم من خلال الإيميل أو الفيسبوك، وإذا تم الطلب المراسلة من خلال تطبيقات غير معروفة أو غير مشهورة، فهذا يجب أن يضع علامة استفهام على طبيعة العلاقة.
المؤسسات الحقيقية فيها دائرة مالية وأخرى للتواصل، ودوائر متخصصة أخرى، فلا يمكن لنفس الشخص أن يستقبل البحث أو المعلومات أو التقارير ثم يقوم بنفسه بتحويل الأموال وعبر طرق تثير الشكوك، ولذلك فإنه يفضل أن يكون هناك دائرة مالية يتم التواصل معها بشكل منفرد، وأن يكون خيار التحويل عبر البنوك.