اخترقت رمزية الأسرى الطاهرة شتى مناحي حياتنا على اختلاف الطيف الفلسطيني/العربي؛ فصائليًا ومناطقيًا، على اختلاف طبائع الناس واهتمامها، عبر الصعقة النفسية التي أحدثها نفق "جلبوع" العبقري، وما أعقبه من إقدام بعض الأسرى على حرق زنازينهم في وجه القوات الخاصة وهي تقتحمها لتشتيتهم عبر السجون والأقسام، بعد إعادة أسر الأبطال الأربعة، وما تبع ذلك من تضامن شعبي واسع، ظهرت تجلياته بمشاعر حزن، تراكمت عند البعض حد الإحباط، وقد رفعوا سقف توقعاتهم، وكأن الأسرى الستة يتحركون ضمن مخطط إقليمي واسع، وليس الحال أنهم انتصروا على منظومة المحتل الأمنية والنفسية بما حققوه من تجاوز عبقري لشتى الحواجز الأمنية في أعتى سجونهم الوحشية.
إزاء ذلك اعتبر الكيان العبري أن الكرّة باتت بيده الآن، وان بإمكانه تفريغ كل تراكمات الحدث المعجزة، بل تحويلها عكسيًا، عبر ارتدادات نجاحه بإعادة اعتقال أربعة من الأسرى.
وقد عمد المحتل في مشروع تفريغ الانتصار، إلى عدة امور أبرزها بث الفتنة، وهو يدرك طبيعة النسيج الفلسطيني العاطفي والسطحي في جانب حادّ منه، وتحرك فتنويًا أولًا باتجاه الداخل الفلسطيني المحتل عام 48، عبر الإيحاء بأن أهل الناصرة لم يساعدوا الأسرى وأبلغوا عنهم. وقد لاحظنا أن أدوات المحتل، وبعض الناس عن جهل، أخذوا بكيل الاتهامات لأهلنا في الداخل المحتل، بل سارع بعض الجهلة وربما بعض العملاء لاتهام البطل الفحماوي الذي اعتقلته القوات الخاصة لتضامنه مع الأسرى، بنشر صورته ووصمه بالعمالة مع المحتل، وهو ما تكشّفَ زيفه مباشرة، ورأينا اهل الناصرة وهم يحاصرون مداخل محكمة "ريشون"، ويزفّون الأسرى الأربعة بالهتافات الصادحة، في أبلغ رسالة كان الأسرى بحاجة لها في لحظة تجدد محنتهم وسط سجانين محتقنين عليهم.
ثم أخذ العدو باللعب على وتر غزة وضفة، وهو ما رأيناه في كيل الاتهام للضفة أنها عجزت عن توفير الدعم اللوجستي للأسرى ولم تستطع إيواءهم، بينما غزة تحتجز اربعة أسرى إسرائيليين منذ سنوات، وكأنه كان بإمكان أهل جنين أن يقتحموا منطقة "جلبوع" للبحث عن الأسرى ونقلهم للمخيم!
بالمقابل تحرك كثيرون بعفوية أو قصد، لكيل الاتهام لغزة بعدم نصرة الأسرى، وكأن الدخول في معركة كان سيوفر للأسرى المحررين دعماً لوجستياً! صحيح أنه كان سينفع الأسرى الذين يتم قمعهم واضطروا لحرق زنازينهم، وهو ما ينبغي أن يحصل لاحقًا، لكنه ما كان له أن ينفع قضية الأسرى المحررين لإتمام تحررهم بنجاح.
واليوم بدأ حتى اللعب بين الفصائل، ورأينا اصواتًا تنادي بالقطيعة، لأن الفصيل الفلاني داخل السجن لم يتضامن مع برنامج الأسرى الذين أحرقوا زنازينهم، وقد ظهر هذا بعد الموقف الرائع الذي خرج من غزة، وقد تعهد بوضع أبطال النفق في صدارة صفقة تبادل الأسرى القادمة، بإذن الله.
وتصاعدت أصوات الفتنة لتطال حتى الحركة التي شكّلت رافعة للأبطال الذين حرروا أنفسهم، وللذين بادروا بإحراق زنازينهم، تحت زعم ان هناك نقمة واسعة على هذه الحركة التي تخلت عن أبنائها، وهذا بخلاف النقد الأخوي الذي قد يكون صدر عن بعض الحريصين من باب التقييم والمراجعة، فإن أصوات النقد لا يخفى خطابها، عن أصوات الأدوات التي حاولت افتعال فجوة نفسية بين إنجاز الانتصار، وبين الحركة التي خلقت البيئة النفسية والفكرية والسياسية لهؤلاء الأبطال في تحررهم او ثورتهم على السجّان.
لن يحصد المحتل من مشروعه الفتنوي هذا إلا الحطام، لأن جوهر هذا الانتصار متصل، نفسياً وفكرياً، بطليعة لا ترى في شتى الأطياف الأخرى إلا الجانب المشرق فيها، وهو جانب موجود وله انعكاساته الإيجابية، وهي طليعة لا تبحث عن تطابق كامل في الفصائل والمناطق والقيادات، ولو حدث هذا فلن يبقى ثمة مبرر للتنوع الموجود بحكم الواقع.
لهذا فإن كل صوت يركز على الجانب المظلم عند الفصيل الآخر أو المنطقة الأخرى، ليجعل منه أداة افتراق وصدام داخلي، ليس إلا أداة مباشرة لمشروع المحتل الفتنوي، وهذا بخلاف النقد الإيجابي العام، وهو نقد أخوي مطلوب في كل ظرف، ولكن تضخيمه لتسعير الصراع الداخلي بما يحقق مشروع العدو لتفريغ الانتصار من مضامينه، يحتم ضرورة تعريته لضمان سلامة الجبهة الداخلية كشرط أساس لنصرة الأسرى في تحررهم وثورتهم.