أقولها للمرةِ الثانية، "تجدُ دائماً من يعل،, لكنك لا تجد من يتعلم". كثرت الدروس، كما المعلمون، والجهلُ باقٍ، وليس أيّ جهل، إنه جهلٌ تاريخي، جهلُ الوعي والضمير، هو الذي هدم الإمبراطوريات، وقهر الجيوش. هذا الجهل بالتاريخ وعدم قدرتنا على التعلم منه وأخذ العبر هو ذاته السلاح الخفيّ الذي ألحق بنا الهزائم بدءاً بأول قذيفةٍ عثمانيةٍ أطلقت على الموانئ الروسية في البحر الأسود عام 1914 حتى خطاب الرئيس المصري محمد مرسي الأخير حول قطع علاقة بلاده مع سوريا.
إن النزاع المسلح الداخلي في سوريا من أعقد الأحداث التي مرّت على المنطقةِ سياسياً منذ قرون – إن لم تكن على الإطلاق – وإن أردنا أن نفهم الأمور بشكلٍ أكبر علينا العودة ثلاثة عقودٍ للوراء لفترة منتصف الثمانينات، عندما رفعت الولايات المتحدةُ راية الجهاد في أفغانستان، وحثّ عملاء الـCIA خيرة الشباب المسلم على دخول أفغانستان ودحر السوفييت ثاني قوةٍ في العالم وعدو أمريكا اللّدود إلى ما دون رجعةٍ عن تلك البقعة الفيسحة من العالم.
شهِد الأفغان تعاطفاً دولياً كبيراً، حتى أن هوليود لم تنسهم بفيلمٍ "لرامبو Rambo"، حيث أن المصالح الأمريكيةِ قد تماشت مع التوجّهات الإسلامية؛ فنحن أردنا حماية إخوتنا في أفغانستان ونصرهم على الظلم الواقع عليهم، أما الأمريكان فكان هدفهم إضعاف عدوهم الإتحاد السوفييتي كي يخسروا بقعةً إستراتيجيةً فسيحةً من آسيا تهددّ المصالح الأمريكية في المنطقة.
لم يلقَ الجهاد في أفغانستان ضد السوفييت إلا التأييد شبه المطلق مع الجماهير العربية والإسلامية، كان جهاداً سهلاً إذا ما قورن بالجهاد في فلسطين، فقوى العالم الكبرى قد تماشت مصالحها مع مصالح المجاهدين، وحققوا لها خدماتٍ عسكريةٍ لم تكن تلك القوى لتقدر تحقيقها بسهولة دون خسائر جسيمة.
وتتكررّ المأساة من جديد، والجلاد هو الجلاد وإن اختلفت الضحية, وما أحدث انقساماً بين الجمهور العربي حول المسألة السوريةِ هو القومية العربية, والتي هي بالأساس كانت الرابط الذي جمع "الجمهورية العربية السورية" منذ تأسيسها حتى يومنا هذا, فاختلاف طوائفها وخارطتها الجيوسياسية متعددة النفوذ لم يكن ليسمح بهذه الجمهورية التي شُبّهتْ بالمشرذمة لولا القوميةُ العربية التي لطالما كانت هي الجامعة لسكان تلك البلد.
إن أهداف الولايات المتحدةِ في سوريا أكبرُ بكثير من مجرّد إزاحةِ نظامٍ موالٍ لروسيا منافستها على خارطة النفوذ بالمنطقة، فهي تريد تقسيم سوريا وتشتيتها في متاهات الطائفيةِ اللامتناهية والتي قد تنتهي بحروبٍ دمويةٍ بين فتات الدولة المنقسمة. وتدميرُ جيشٍ عربيٍ قوي رغم عدم فعاليته في الصراع العربي الإسرائيلي منذ عقود، إضافةً إلى أمورةٍ كثيرةٍ لا حصر لها تنصبُّ في دلو المصالح الأمريكية.
أما الدول العربيةُ والإقليميةٌ غير "إسرائيل" التي تتطابق مصالحها مع المصالح الأمريكية، فإما تريد أن تجد نفوذاً لها في سوريا القادمة بإقامةِ تحالفاتٍ مع المعارضةِ ودعمها، أو ترغب في التخلصّ من قوةٍ إقليميةٍ مجاورةٍ ذات علاقاتٍ غير طيبةٍ معها وتشكل تهديداً لأمنها القومي، إضافةً لأحزابٍ سياسيةٍ تجد في سوريا القادمة مكاناً ملائماً لإنطلاقتها الفعليةِ كما انطلقت القاعدةُ وطالبان من أفغانستان قبل خمسٍ وعشرين عاماً.
أما الأفراد فقد انقسموا بين مؤيدٍ ومعارضٍ للنظام السوري: المؤيدون أيدوا بقاء الرئيس الأسد بداعي القوميةِ العربيةِ ومنع المؤامرات الأمريكية، أما المعارضون فرأيهم أن بشار الأسد سفاحٌ قتل شعبه نساءً وأطفالاً. وشخصياً لست مع بقاء الأسد فقد قتل ما يكفي! لكنني أيضاً ضد ما يحدث من مؤامرةٍ على سوريا كما العراق وليبيا ومصر وغيرها.
وهنا يعود مسلسل الجهاد في سوريا مرةً أخرى، فينادي به القادة والزعماء العرب والمسلمون الذين هم أنفسهم حاربوه بضراوة عندما شنّ ضدّ عدوتهم الحقيقية "إسرائيل"، إنه الجهاد السهل، عندما يكونُ بموافقةٍ أمريكية، وهل تذكرون البوستر الأمريكي الشهير للعمّ سام عندما يدعو الأمريكيين للالتحاق بالجيش؟ وكأنني أراه يدعوهم للجهاد ضد الأسد في سوريا، مستغلاً النعرات الطائفيةَ بين السنة والشيعة، وقد أثار استغرابي ردةُ فعلّ بعض الجماعات الإسلاميةِ تجاه ما يحدث في سوريا من إنتصاراتٍ للمعارضة والتي فاقت ردّة فعلهم تجاه أيّ شيء حدث في العراق أو فلسطين، حتى أن أحد الأحزاب الإسلامية كان أفرادها يتباهون بشهادة خبراء الـAIPAC الأمنيين الصهاينة (على حد تعبيرهم) حول القوة التي أبداها مقاتلو المعارضة في القصير!
لا أريد سوى أن أدعو ربنا أن يحقن دماء إخوتنا السوريين، ويحمي سوريا وغيرها من الفتنة والمؤامرات, وإن لم ترضَ عنك أمريكا رضيت عنك روسيا، إن لم ترضَ عنك روسيا رضي عنك الله، والله تعالى أعلم.