لقد مثَّلت الملاحم الأدبية التاريخية عبر العصور الغابرة أهم الركائز الأساسية لتطور الأدب والفكر الإنساني وعلاقته بالحضارات التي قامت وتطورت واندثرت وخُلِّد تراثها وتاريخها، ففي الأدب اليوناني والغربي كانت الملاحم الأدبية زاخرة بتمجيد الأبطال والأساطير والخرافات وصراع اللامتناهي للآلهة والذي انعكس على ثقافة تلك الشعوب وإرثها الأدبي والفكري والفلسفي، فعلى سبيل المثال الألياذة بما فيها من صراع بين اليونانيين والطرواديين تمحور حول غضب أخيل وبطولاته والتي تروي صراع عرشين والحصار الطويل، وما أسفر عنه من مآسي وويلات، بينما تجد في الأوديسة يوليس وصراعه أثناء عودته من طروادة إلى وطنه، فثمة كفاح يوليس وبطولته قوى الطبيعة قوى خارقة، ثم نجاحه بالذكاء والقوة باستعادة ملكه وهي أيضاً للشاعر الملحمي هوميروس، وكذلك الإميادة الملحمة اللاتينية التي كتبها الشاعر الروماني برجيليوس، والتي تتحدث عن مغامرات أنياس الطروادي بعد انتهاء حرب طروادة في طريقهم لتأسيس الحضارة الرومانية وغيرها من الملاحم الأدبية في الهند مثل الرامينا وألمهبراتة، وشاهنامة الشاعر الفارسي الفردوسي في بلاد فارس والفردوس المفقود لمالتون الشاعر الإنجليزي، وغيرها من الملاحم والتي كما أسلفنا خلدت ذكر وذكرى تلكم الشعوب ونضالاتها، وحفرت في ذاكرة الأجيال مقاصدها من جيلٍ إلى جيل.
وعند الحديث عن التغريبة الفلسطينية والكارثة التي حلّت بشعب وأرض، وكيف ارتطم بالعالم بصورة فاجعة تكسر نياق القلوب، وكأن قدمًا بحجم مأساتها ونكبتها داست عليه بقوة، فقتلت من قتلت وطار مع الرمل والطين المتطاير إلى منافي الأرض وشتاتها من طار، ليتشظى الأمس ويتحول سيد الأرض بلمحة مؤامرة وقدر في مخيمات اللجوء لعبد، تُداس الأرض والعرض وشقائق النعمان، حجارة البيوت العتيقة والمكان، بيادر القمح وسنا الصبح، ذكريات عاشقين، أمسية الأجداد وتوتة الدار وزيت السراج وطيب الفلاحين، وثوب كنعان أعراس المواسم دبكات البيادر تغاريد الجدات، وصبايا النبعِ بجرار الفرح تروي كل عطشان، ديست، وحل الغياب والغرباء مكانها...
وفي حضرة الجلال جلال، غسان، سيد الملحمة الفلسطينية، قلمها وأديبها وفنانها، وجعها وجرحها وثائرها، مُضمِّد الجراح ومحرك المقهورين وحامل السلاح، قلم وبندقية وصورة، أمل دستور حياة ومنارة، فترى كيف وقفت كلمات كنفاني وهي تغرس أقدامها بالرمل عميقًا، تصرخ ثاغرة فاهها وذراعيها في وجه الهاربين ممن تبقوا، ألا تتركوا أرضكم وبيوتكم وأحلامكم وتاريخكم ،ذكرياتكم وذكراكم، وأبناءكم في سن الطفولة للغزاة خلفكم (عائد إلى حيفا)، وكيف حرضت الفلاحين والفقراء على القتال والصمود وشراء المراتين بالدم (المدفع، صغير وأبوه يذهبون إلى قلعة جدين)، كيف أحيت فيهم صوت الإرادة وهي تتدفق بسكون وإصرار من قلب الفراغ والهزيمة، مثل الارتطام الساكن لغيمتين اتفقتا على موعد المطر (الأطرش، والأخرس)، هؤلاء الرجال التي كُتبت أقدارهم منذ الأزل والتي هي مثل أسمائهم تلتصق بهم في لحظة الحقيقة وهم يدركون كيف جاءت (برقوق نيسان)، فيسقوا فولاذ بنادقهم بالدم لتصبح له رائحة الخبز (أم سعد)، وعن المرأة الفلسطينية كقاموس وهوية والتي لا تلد إلا الفدائيين (أم سعد)، عن الذين هربوا والذين تقدموا وإن رائحة المقاومة الباسلة حيث تكون جزءًا من جسد الإنسان ودمائه برائحة حنون صفد وياسمين البلدة القديمة في يافا (أم سعد)، عن شجرة الياسمين هناك والتي ما زالت تتلألأ مسقطةً شموعًا صغيرة من الزهر الأبيض (رأس الأسد الحجري)، وكيف اجترح المنفى مفرداته وكيف ينزلها في حياته كما ينزل كسرة المحراب في الأرض (أم سعد)، لأن الإنسان ليس لحمًا ودما يتوارثه جيل وراء جيل بل في بداية الأمر ونهايته قضية (عائد إلى حيفا)، وبأن فلسطين أكثر من ذاكرة (عائد إلى حيفا)، وكيف حول اللاجئين من قيمة تجارية وسياحية وزعامية وخطابات الوطنية واللفتات الإنسانية إلى ثورةٍ وثوار وقضية (أرض البرتقال الحزين)، لا يقف اللاجئ تحت سقف القوس الواطي في الصف العالي من المعركة وبذلك تصبح خيمة المقاومة والصمود تختلف عن خيمة الخنوع وكرت المؤن، خيمة عن خيمة بتفرق (أم سعد)، وعن الرجال الذين يزحفون تحت صدر العتمة ليبنوا لنا شرفًا غير ملطخ بالوحل (عن الرجال والبنادق)، في زمن الاشتباك حيث يمر المقاتل طوال نهاره بين طلقتين (عن الرجال والبنادق)، بأفكارهم النبيلة وممارستهم التي لا تحتاج غالبًا للفهم بل الإحساس والإيمان المطلق بها (قرار موجه)، وإن شجاعتهم وإقدامهم مقياس إخلاصهم لقضيتهم ( قرار موجه)، وللذين كان شعارهم ليس أن تُستشهد إحدانا، المهم أن تظل فلسطين البوصلة وأن تستمروا (قرار موجه)، فهؤلاء الذين أرادوا أرضهم وفلسطينهم بشدة فأخذوها بأذرعهم وأكفهم وأصابعهم (ذراعه وكفه ويديه)، ولم يموتوا قبل أن يكونوا أنداداً لعدوهم (الأخضر والأجمة )، إن مصير كل من تكون بوصلته غير عكا ويافا وحيفا واللد والرملة والناقورة وكامل فلسطين والعودة فعلى مزبلة التاريخ (رجال في الشمس)، وسوف يضحون هيكلًا مقددًا في الشمس والرمل إلى الأبد كأنهم علامة طريق لا ترشد إلا للضياع بلا قرار (ما تبقى لكم)...
نعم، هذه بعض أوراق شجرة الأديب الملحمي والثائر والمقاتل والمفكر غسان كنفاني، اليانعة والمثمرة على مدار الأربع فصول، وهو يقدم النموذج الحي والدائم ما بين القلم والبندقية، ما بين الفكر والممارسة، الثقافة والسياسة، قدم أوراقا حية فيها واقعية مئة بالمئة في الاشتباك والتلاحم مع القضية، قضية الإنسان العربي الفلسطيني وهمه والتلازم غير المسبوق مع الأدب والفن المسرحي المميز والملتحم بقضيته حد الإعجاز، بمزيد من التأثير ومواجهة الحقيقة وهي الشيء المهم الذي يصنع الفارق والفرادة والديمومة، ما بين الوجع والأمل، الكارثة والثورة والانتفاض، وما بين الاقتلاع والعودة، مؤمنًا من أخذ منها دستوره وكافرًا من أعرض عنها، هذا دور المثقف الثوري الذي حدده غسان كنفاني، المرتبط بمصالح الجماهير الفقيرة والمضطهدة، المدافع عن آمالها وطموحها بالعودة والحرية والفكاك من المحتل بوصفه التجلي للممارسة للبعد الطبقي.
ستظل شجرة الشهيد غسان كنفاني تمثل الرافعة النضالية والعناوين الثورية التي تضع الإصبع مباشرةً على الجرح الوجهة والمسار، فنحن لن نرتد حتى نزرع بالأرض جنتنا أو ننتزع من السماء جنة أو نموت معاً، وسنبقى ندق جدران الخزان، وسنظل نسقي شجرتك بسنين عمرنا وبدمنا، إلى أن نعود وتعود فلسطين حرةً أبية، أو كما قال الحكيم جورج حبش: "إن عظمة غسان وعبقريته تكمنان في قدرته الخارقة على الإحساس باللحظة والتعبير عنها بأجمل صور الإبداع والتألق والديمومة، والتي تمنح القدرة على الاستعدادية النضالية والتضحية، تصنع الرجال والأمل".