أربعة شهداء هم (عيسى برهم، وزكريا حمايل، ومحمد حمايل، وأحمد بني شمسة) وعشرات الجرحى، في الشهر الأخير، قدمتهم بلدة بيتا، جنوب نابلس، في الضفة الغربية، إضافة إلى الشــهيد (طارق صنوبر) من قرية يتما المجاورة، وقبلهم جرحى ومعتقلون كثر، في الأشهر الماضية، في إطار الدفاع عن (جبل صبيح)، المهدد بالتهويد واستيلاء المستوطنين عليه، والواقع شرق حاجز زعترة، قريبًا من الشارع الممتد باتجاه الأغوار، والمطلّ على قرى بيتا ويتما وقبلان.
تبلغ مساحة الجبل نحو (840 دونمًا)، استولى المستوطنون حتى الآن على (20 دونمًا) منه، وأقاموا عليها عددًا من الوحدات الاستيطانية التي باتت تتزايد بتسارع في الأيام الأخيرة، في إطار خطة الضم الصهيونية لمناطق واسعة ومهمة من الضفة الغربية، وهي الخطة التي لم تجمّد، بل تُنفذ بالتدرّج، في مناطق متعددة، بعضها بعيد عن كاميرات الإعلام.
جبل صبيح مِثل كثير من المناطق المرتفعة والاستراتيجية في الضفة الغربية كان هدفًا لسيطرة الاحتلال بغرض بناء مستوطنات عليه منذ عقود، وقد كانت أولى محاولات الاستيلاء عليه في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وذلك بإقامة نقاط عسكرية على مناطق في الجبل، تطورت لاحقًا إلى وحدات استيطانية، وثمة محاولات للسيطرة عليه بالكامل أخيرًا، لولا المواجهات المستمرة مع أهالي القرى القريبة منه.
كان يمكن لأهالي بلدة بيتا التي تتصدر المواجهات منذ عدة أشهر، ومعها قرى أخرى، أن يسلموا بالأمر الواقع، نظرًا لشح إمكاناتهم مقابل الترسانة العسكرية العاتية التي يواجههم بها جيش الاحتلال، وأن يسلموا من جانب آخر بأكذوبة ملكية أراضي الجبل للمستوطنين، لكنهم نشطوا على جبهات عديدة، منها إثبات ملكيتهم أراضي الجبل، وعدم تسرّب أي قطعة فيه بالبيع والسمسرة، إلى جانب صمودهم الكبير في مواجهات شبه يومية مع جنود الاحتلال ومستوطنيه في محيط الجبل، الذي يسعى الاحتلال إلى تحويله إلى مستوطنة تفصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها، بحيث يصبح حاجز زعترة بوابة بينهما، ومن شأن المستوطنة، في حال النجاح بإنشائها، أن تربط بين المدن المحتلة غربًا والمستوطنات في الأغوار شرقًا.
يحاول جيش الاحتلال أن يوقع إصابات كثيرة في كل تظاهرة ينظمها أهالي القرى للدفاع عن الجبل، إضافة إلى استهداف الناشطين بالاعتقال، لكي يؤكد رسالة الكلفة العالية لنضالهم الشعبي في وجه آلة الاستيطان السرطاني، وليحملهم على التعب والتراجع، والتسليم بحتمية تهويد الجبل وإقامة مستوطنة عليه، لكن كل هذا لا يفلح في إيقاف إرادة المواجهة التي يتسلح بها الأهالي، والإصرار على فعل ما عليهم لدفع الاستيطان عن الجبل.
ثمة استئناس لدى هذه الطليعة الفاعلة والناشطة في مواجهة الاحتلال في جبل صبيح جنوب نابلس بكل جولات الصمود في السنوات الأخيرة في الضفة والقدس، التي نجحت في تكبيل سياسات الاحتلال وردّها، مثل هبّة باب الأسباط، وفتح مصلى باب الرحمة، وصمود أهالي الخان الأحمر، وليس انتهاءً بثبات أهالي حي الشيخ جراح وحي بطن الهوى في سلوان، بالقدس، ودرّة ذلك كله معركة (سيف القدس) التي خطّت معادلة صمود فلسطينية جديدة، وكرّست كثيرًا من معاني التحدي والإصرار، وجدوى المواجهة ومدافعة سياسات الاحتلال، وإظهار إرادة المقاومة وعدم الاستكانة، وهي معانٍ مشفوعة بأمل كبير في أن التغيير بات ممكنًا، وأن عصر الغطرسة الصهيونية يمكن أن يأفل، وسياسات عنجهيته يمكن أن تنكسر.
لا شكّ أن كل تلك المحطات والجولات، بما تكتنزه من معانٍ ودروس، قد تعززت لدى أهالي بيتا والقرى المجاورة في معركتهم الأخيرة، مع أنهم أهل الإقدام والمواجهة منذ عقود، لكنهم اليوم يظهرون إصرارًا كبيرًا على مواصلة معركة التصدي للاستيطان على جبل صبيح، حتى مع ارتفاع ضريبة خيارهم هذا، لكنها إرادة التحرر من الضعف التي تتفوق على حسابات القوة الباطشة، وعلى كل ما يمكن أن يغري بالانسحاب، وهي تأكيد آخر على جدوى أن يهبّ أصحاب الحق لكي ينافحوا عنه، حينما يُتهدد بالسلب، لأنهم بذلك لا يثبتون فقط التصاقهم بحقهم ونسبته لهم لا لمزوري التاريخ، بل يقدمون أيضًا مثالًا آخر لغيرهم باعثًا على الاحتذاء، ومحررًا من الكسل والقعود، وهو مثال عصيّ على الانطفاء، لأن شعلته مسرجة بالدم، وبغبار الحجارة ولهيب الإطارات، وبتكبيرات الحناجر الأبية وهي تعلن التحامها بأرضها وتجذّرها فيها، ومواصلة المعركة ذودًا عن حماها.