1.
مبروك. نجح الإضراب نجاحا غير مسبوق. لم ينجح فقط في إغلاق المحالّ التجارية وشل جزء مهم من اقتصاد الكيان، بل ترافق مع دخول قطاعات شعبية كانت بمنأى عن المشاركة في الفعل السياسي وأدخلها من باب التضامن الواسع إلى باب الفعل الواسع. كلّ بحسب قدرته، ولكلّ بحسب استعداده للضخّ.
هذا الإضراب نجح أيضا في نقل الضفّة نوعيا باتجاه الاشتباك. وهذا كلّه نجاح مسربل بالدمّ أيضا.
الآن، وفي أيدينا هذا كلّه، ما الذي علينا فعله؟ قد تكون الانتصارات التكتيكية أيضا مدخلا مهما لانحدار الرغبة في المواجهة، حفاظا على الإنجاز اللحظي، وهروبا من المواجهة التي قد تحمل معها أيضا احتمالات الخسارة.
علينا أن نذكر أنفسنا ومحيطنا دائما بأن أن هنالك قضيّتين لم تُحلّا بعد: الشيخ جرّاح وغزة (غزة بكل ما تحمله قضيتها من تفريعات، وأوّلها الحصار المضروب عليها). منسوب الدم العالي المبذول هناك يقول بأن علينا ألا نتوقّف. نحن لم نخرج إلى الشوارع لكي نحقق انتصار خلق التضامن. بل لكي ننهي وإلى الأبد فكرة التضامن هذه، ولكي نعيد كل ما انخطف من فلسطين، سنة 48، إلى فلسطين. علينا ألا نخلد الليلة مرتاحين إلى النوم، بعد أن دفعنا الشرطة إلى سحب قوات القمع (ياسام) من شوارعنا، والاكتفاء بتنظيم السير حول مظاهراتنا. هذا الانكفاء انتصار لحظي، لكنه محسوب، إنهم يجرّبون أن يحتوونا، بعد أن فشل إطلاق النار، وفشل إرخاء العنان للعصابات الفاشية في شوارعنا في تحقيق ذلك.
2.
اجتراح البنية التحتية:
نجحت الهبة الأخيرة في أمرين: 1. إعادة الوحدة الوطنية إلى فلسطين (لا.. لا أتحدث عن إنهاء الانقسام، ف"انقسام" 2007 كما رأينا، كان اشتراطا ضروريا لتحقق الوحدة الوطنية في معركة اليوم). و 2. خلخلة مؤسسات السلطة وما تبقى من لجنة المتابعة.
رغم ما سبق، لا ينبغي أن يتملكنا الوهم بأن ما يحدث اليوم في الشوارع هو انتفاضة. إن كان هنالك فرق بين الهبّة والانتفاضة، هو أن للانتفاضتين، حين تحوّلتا إلى انتفاضتين، كانت هنالك بنية تحتية: في الانتفاضة الأولى كان العمل الأهلي والنقابي والحزبي ضمانة لاستمرار الفعل، وفي الثانية كانت مؤسسات أوسلو، بما هي عليه من هزال، قادرة على ضمان استمرارية الفعل الانتفاضي. ونحن هنا، في 2021، لا نملك مثل هذه البُنى. نحن نعيش مرحلة ما بعد خراب أوسلو، ووفاة منظمة التحرير، وتجشؤ الفطريّات لما تبقى من جسم لجنة المتابعة، والأحزاب باتت، تقريبا، في نزعها الأخير. أما الحراكات، فلا يُبنى عليها، لأنها بطبيعتها التنظيمية، ليست تنظيما.
الفرق الآخر بين الانتفاضة والهبة، أن الهبة احتجاجية، أما الانتفاضة فهي احتجاج بشعار سياسي نعتقد أنه قابل للتحقيق. انتفض الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة في زمن الاحتكاك ما بين الهيكل المتهالك لمنظمة التحرير، وما بين القوة الجديدة الصاعدة، المتمثلة في الحركتين الإسلاميتين، ونجم عن هذا الاحتكاك دغدغة أمل الجماهير بشعار "قابل للتحقق" هو شعار الدولة التي على مرمى حجر، قبالة شعار الإسلاميين "لا شرقية ولا غربية، إسلامية إسلامية".
الهبّة، من حيث كونها هبّة، فورة محكومة بسقف زمني واطئ. خصوصا حين تغيب البنية التحتية التي من شأنها أن تحتوي المنتفضين، وتشكّل رافدا لوجستيا في زمني الاشتباك والانكفاء (تمريض، خدمات اجتماعية، اقتصاد محلي قادر على الانفكاك عن اقتصاد الاحتلال ولو بالقليل الذي يتيح للمنخرطين في الاشتباك توفير لقمة عيشهم)، وتكفل الاستمرار. (ونحن موضوعيا بعيدون عن هذا كلّه)
الاشتباك العسكري أيضا محكوم بسقف زمني، فلا الكيان قادر على الاستمرار حتى الأبد في الاشتباك، ولا المقاومة أو حاضنتها لديها القدرة على فعل ذلك. هذه جولة، وهي ليست حرب التحرير. كل ما يحصل الآن هو بذل دم غالٍ من أجل انتزاع بعض حقوق الناس في القطاع المحاصر، تحقيق انتصار في الوعي، التشكيك في استدامة العدو، ولعل ذلك يترافق، أيضا، إن تمكنا من الضغط، مع لجم الاستيطان في القدس. لكن هذا لن يعني أن القدس لن تقف وحيدة مجددا في معاركها اليومية مع الاحتلال ومستوطنيه.
ارتباط الهبّة، زمنيا ووجدانيا أيضا، بالاشتباك العسكري، يجعل سقفها سقف الاشتباك العسكري. هذا يعني أن قطاعات مهمة من المنتفضين ستنسحب من الشوارع فور الإعلان عن هدنة، باعتبار أن الهبّة نفسها كانت نصرة لغزّة.
هذا يعني أن الوقت الذي أمامنا، في الحركة الوطنية في فلسطين من أجل مدّ ما أمكن من بنى تحتية تجعل إنجازات المنتفضين ماثلة أمامهم (تعليم شعبي، تأطير، عمل اجتماعي وتطوعي) قصير جدا.
3.
ما العمل:
علينا أن نواصل التشبيك مع الناس، علينا أن نوفر نموذجا حيا أمام الناس التي قد تشتاق، إن لم نقم بما يجب علينا القيام به، إلى زمن ما قبل الاشتباك. وعلينا، في ظل هذا الوقت القصير والآخذ في الضيق مواصلة العمل، منذ صباح الغد، على تكثيف عملنا في الحارات والمخيمات والمدارس. بالتوازي مع الاشتباك. وحتى لا يضحك علينا الكابينت بمخدر الانفراج. فالفرصة التي أمامنا لن تعود، وعلينا أن لا نتوهّم بأننا قد وصلنا إلى نهاية التاريخ. قد تكون هنالك خيبات في الطريق، وعلينا أن نسعى، بكل ما أوتينا من قوة، إلى مدّ الأرض تحت الأقدام المنتفضة، قدر الإمكان إلى الأمام، فهذه البنى التحتية توازي ما نحرره الاحتلال في وجداننا.
4.
اليوم رأيت طفلا في مظاهرة حيفا، في الصف الرابع، كان يرفع علم فلسطين، فخورا . على الجانب الآخر من المظاهرة، أب وأم وأطفالهما الأربعة، رأوا العلم، فنادى الرجل الطفل، سأله "من أين أتيت بالعلم"؟ أجاب الولد بفخر: صاحب أبوي أعطاني اياه.
طلب الوالد المحرج من الطفل أن يبيعه العلم، فأجاب الولد: والله لو بتموت ما ببيعه.