تنتفض الأرواح المُخلِصة في كافّة أقطار عالمنا الإسلاميّ كلما دَوَت رصاصةٌ أو هَوَت قنبلةٌ في القدس وشوارعها، وتلتهب الضمائر حدّ الانفجار كلما دبّ بسطارٌ أو خطا مستوطنٌ في المسجد الأقصى وساحاته، وتنتشي القلوب بالأمل مع تحليق حجرٍ أو صعود تكبيرةٍ إلى سماء الإسراء والمعراج، وكلما ازداد الاحتلال حكومةً وجيشاً ومستوطنين دناءةً وإجراماً ازددنا شدّةً وقوّةً وعناداً، وازداد اليقين بمصير الاحتلال الحتميّ وزواله الآخذ بالاقتراب أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
فقد أثبت التاريخ منذ فجره أن شعب هذه الأرض التي تنازعت عليها كُبرى الإمبراطوريّات لم يتزحزح، وأنه قد بقي واستمرّ في حين سقطت كلّ تلك الدُّوَل وتهاوت إلى مجرّد آثارٍ في المتاحف وذكرياتٍ بين أسطر الكُتُب، وعندما سلّم كلّ العالم الإسلاميّ وتنازل حكّامه سرّاً أو جهراً عن إحدى أهمّ مقدّساتهم، تُرِك أهل القدس ومن استطاع إليهم سبيلاً وحدهم يخوضون معركةً عن بقيّة المسلمين الذين باتوا يشكّلون رُبع تعداد العالم.
وبهروب آخر فلول قوات الاحتلال المهزومة من ساحات المسجد الأقصى وفشل خطّة الاقتحام التي حاول تنفيذها المستوطنون، بعد معركةٍ تحدّت فيها صدور المصلّين العارية البنادق والقنابل والطائرات المسيّرة، أثبت الفلسطينيون للجميع بأنهم لا يحتاجون إلى الدعم الماليّ وطرود الغذاء وبراميل البترول ومؤتمرات القمّة ومجلس الأمن والعروش والجيوش، وأنهم مخلصين إلى الأمانة التي سيقدّمون أموالهم وأحلامهم وأعمارهم وأرواحهم وأرواح أبنائهم في سبيلها.
وفي حين شاهد العالم أجمع على الشاشات ما يجري في مدينة السلام من اعتداءٍ على المصلين الآمنين والمرابطين واستهدافٍ لهم بالضرب والرصاص، ومحاولات الإبادة الجماعيّة للنساء والأطفال بإغراقهم بالغاز المسيّل للدموع خلال احتمائهم في مصلى التوبة والرحمة والمسجد القبليّ والمسجد المروانيّ وقبة الصخرة، والتنكيل بطواقم الإسعاف والصحفيين وكبار السنّ، والسعي الدائم لتدنيس قبلة المسلمين الأولى، والذي كاد أن يتحوّل لمجزرةٍ جماعيّةٍ بشعة، فقد انكشف ستار الخيانة والعار والتلفيق أكثر وأكثر عن أصدقاء الصهيونيّة الجُدد، وانفجرت الفقاعات الفارغة لأصحاب المنابر والكراسي الذين لطالما حذّروا وتحدّثوا عن القدس وفلسطين.
ففي هذا الامتحان الكبير للدفاع عن القدس والمقدّسات نجح أهل القدس ومن ناصرهم من مواطنين ومصلين ومعتكفين ومسعفين وصحفيين، والذين نجحوا بالصمود في وجه المحتل متوكلين على من في السماء، وسقط كلّ من اعتقدوا أنهم أولي أمرٍ من الملوك والحكّام والأمراء والزعماء ورؤساء الوزراء والضبّاط والعسكر ورجال المخابرات والذباب الالكترونيّ والمتخاذلين والمتآمرين والمتنازلين والمتعاونين والمطبعين والمشكّكين.
وفيما نهض شعبنا كطائر الفينيق كلما اعتقدوا أن إرادتنا قد تحوّلت إلى رماد، بعد أن كتبنا بالدمّ إنجازاً جديداً يُضاف إلى لائحةٍ لا تنتهي من الشرف، ازدادت قائمةٌ أخرى سواداً لكثرة ما تلطّخت عاراً وذُلّاً ومهانة، ليتبادر سؤالٌ للأذهان: "عندما يهرب أولئك والهزيمة ورائهم فإنهم سيعودون حيث أتوا إلى بولندا وروسيا وفرنسا وأمريكا وأثيوبيا وغيرها، أما أنتم فإلى أين ستفرّون؟".