(1)
في الليلة الثالثة عشرة للمواجهات التي كانت آخذةً بالاتّساع والتجذّر، تراجع الاحتلال ولم يحرّك ساكناً وهو يشاهد المقدسيّين يفكّكون الحواجز الحديديّة في ساحة باب العامود ودرجاته. نصرٌ جديد يسجّله المقدسيون في صراع الإرادات مع المحتلّ.
تناقلت الصحافة الصهيونية انتقاداتٍ وجّهها عدد من كبار ضبّاط شرطة لواء القدس لقرار مفتش الشرطة الصهيونيّة وقائد اللواء، واصفين القرار بأنّه خضوع "للعنف" الفلسطيني، وخرق للسيادة على " العاصمة"، وتآكل للردع، مرجعين القرار "الخاطيء" لقلّة تجربة المفتّش العام وقائد اللواء بأوضاع القدس. وبصرف النظر عن هذا الجدل الداخلي، فمن المؤكّد أنّ الاحتلال لم يتوقّع ردّة الفعل المقدسيّة وأحسّ بعمق الورطة، خاصةً في الليلتين الماضيتين والخطر الجدّي بانزلاق الوضع نحو مواجهةٍ عسكريّة في غزة وتصعيدٍ نضاليّ في الضفة.
وهنا من المهم أن نحرم الاحتلال من تحقيق أيّة إنجازاتٍ التفافيّة خلال الأيام التالية في باب العامود بمقاطعة أيّة فعالياتٍ رمضانيّة برعايته أو بالتنسيق معه، لكي لا يظهر بأنّ تراجعه جاء لمصلحة أهل القدس وعدم التشويش على حرية العبادة. وذلك بالنظر لما تروّج له بعض المصادر الصحفيّة الصهيونيّة، بأنّ التراجع في باب العامود جاء تلبيةً لطلب التجّار المقدسيّين ورجال دين مسلمين ومسؤولي "بلدية القدس". وكذلك بالنظر إلى ما تمّ الإعلان عنه البارحة عبر مكبرّات صوت الشرطة عن احتفاليّةٍ رمضانيّة تُقام اليوم على مدرّجات باب العامود.
(2)
انطلقت هبّة باب العامود بمبادرةٍ شبابيّةٍ ذاتيّة دفاعاً عن أرضها ومكانها وبيتها في مدينتها، وبقيت صامدةً في وجه القمع والإرهاب الصهيوني من جهة، وفي وجه التثبيط والتشكيك من جهةٍ أخرى. ومع صمودها وعنفوانها، زاد الالتفاف الشعبيّ حولها إلى أن كسرت الجموع إرادة العدوّ.
غابت الشخصيات والمرجعيّات طيلة أيام الحراك الشبابيّ، حيث أنّ طبيعة الساحة النضالية لم تكن تسمح بمكانٍ للمتسلقين. وبعد أن حقّق الحراك هدفه وتحوّل الجو إلى حالةٍ احتفاليّة في الليلة الماضية، ظهرت فجأةً هذه الشخصيات التي تنوّع طيفها من عضو الكنيست مروراً بنجوم الفصائل لأغراض الدعاية الانتخابيّة وصولاً لمسؤولٍ في مركزٍ جماهيريّ تابع لبلدية الاحتلال، الذين بدؤوا يتحدثون للإعلام باسم الحراك. ووفاءً للحراك ونضالاته، ولمن دفعوا الثمن وسيدفعون الثمن، علينا الحفاظ على روح الحراك وعدم السماح لهذه الكائنات الطفيليّة أن تتصدّر واجهة المشهد.
(3)
من المسلّم به أنّ مركز الصراع الملتهب في القدس هو المسجد الاقصى، ولكنّ اختزال الصراع ضمن حدوده وعلى بواباته يُضعف قدرتنا على حماية المسجد الأقصى ضدّ التهويد والاقتحام. فكلّ نجاحٍ صهيونيّ في القدس والبلدة القديمة، يُضعف بالضرورة قدرتنا على الدفاع عن المسجد الأقصى. وقد ظهر هذا الوعي المغلوط بحدود المجال الدفاعيّ عن المسجد الأقصى جليّاً في هذه الهبّة، خاصةً في عدم تبنّي الدعوة إلى صلاة التروايح في باب العامود، بل وذهب البعض إلى أنه على الحشد في باب العامود التوجّه للصلاة في المسجد الأقصى رباطاً وحمايةً له، وكان واضحاً ذلك في تخاذل الشخصيات الدينيّة المؤثّرة في معركة باب العامود، وإنْ لهثت لاحقاً لتلحق بالموجة بعد أن استغلظ نبات الحراك واستوى على سُوقِهِ.
(4)
تتوالى الانتصارات الميدانيّة المقدسيّة خلال السنوات الأربعة الأخيرة، والتي أتت كردّة فعلٍ على قيام الاحتلال بخطواتٍ محدّدة (البوابات، إغلاق مصلى باب الرحمة، حواجز باب العامود) معبّرةً عن القدرة والفعاليّة النضاليّة للمجتمع المقدسيّ. ولكن في المقابل، يبقى العجز هو سيّد الموقف في مواجهة العمليات الاستعماريّة طويلة الأمد (أسرلة المناهج، الدمج الاقتصادي…) هذا العجز الذي بدوره بحاجةٍ إلى هبّةٍ لمواجهته، خاصةً أنّ الاحتلال عادةً ما يُتبع تراجعه في الميدان بتصميم رزمةٍ من عمليات الدمج "والأسرلة " في مسعاه لقمع مقدرة المجتمع المقدسيّ على المقاومة.
(5)
بعيداً عن التخويف ونشر الأراجيف، من غير المستبعد أن تُقدم ميليشيا المستوطنين على عملٍ إرهابيّ لتدفيع المقدسيّين ثمن انتصارهم في باب العامود، بالتوازي مع عمليات تدفيع الثمن "القانونيّة" التي تشنّها الشرطة والبلديّة عقب كلّ مواجهةٍ وانتصار. ولتفويت الفرصة على الغادرين، علينا أن نزيدَ من تيقّظنا وحيطتنا والعودة إلى إرث الحماية المجتمعيّة على مستوى الحارة والحيّ، وهذه فرصة لتعزيز التلاحم المجتمعيّ في وجه التهديد المحتمَل.
(6)
المُصرارة : منتصف الليل،
جنود متراصّون وشاردو الذهن،
كتلةٌ مصفّحة ضدّ الرصاص.. وضدّ كلّ شيء
إلّا ضدّ شعورٍ بالعدميّة لا بدّ أنّه يَطنّ في جماجمهم بعد ثلاثة عشرة ليلة من قتال الشوارع
هزيمةٌ أخرى على أبواب " العاصمة الأبديّة"
أيّة أبديّةٍ هذه؟
مرّةً أخرى، ما معنى هذا كلّه؟
ما معنى "إسرائيل" ذاتها؟