شوارع القدس المحتلة (المسماة اليوم "غربي القدس") مكتظة بالبشر، من كل الأصناف إلا من أصحابها الممنوعين منها، تحضيرات على قدم وساق، أعلام الشركات الراعية في كل زاوية، إعلانات لشرطة الاحتلال عن الشوارع التي ستغلق والأوقات التي ستفتح فيها، حياة صخبة جداً، إن كنت غريباً عن البلد، مُغيباً عن قضيتها لن يساورك الشك وأنت تراقب ملامح تلك الحياة الصاخبة أنك في مدينة مُحتلة.
كان ذلك المشهد ليلة الأربعاء استعداداً لسباق "الفورميلا وان" الذي أقامته بلدية الاحتلال تحت مُسمّى 2013 Peace Road Show Jerusalem Formula- The يومي الخميس والجمعة 13 و14 حزيران. "نير بركات" رئيس بلدية الاحتلال في القدس والذي تُعرف عنه محبته لسيارات الفورميلا وسباقاتها كان هو من اقترح الفكرة، ومن ميزانية بلديته صرف ما يقارب مليوني شيكل ونصف، إضافة إلى 15 مليون شيكل وصلت من مصادر عالمية وإسرائيلية أخرى.
فعلياً، السباق ليس سباقاً بمعنى الكلمة، فالشوارع التي سار فيها ليست شوارع مهيئة لسباق كهذا، وإنما يدور الحديث عن طريقة لعرض تلك السيارات الأسرع في العالم وجذب انتباه السياح والإسرائيليين للمدينة، خاصة أن السباق يستضيف أشهر ممارسي هذه الرياضة عالمياً.
أما مجازاً، وهذا الأهم فهو سباق، بل سباقان من نوع آخر. سباق على رئاسة بلدية الاحتلال التي تجري انتخاباتها نهاية هذا العام، وسباق على "صورة القدس كمدينة متسامحة مسالمة"- والأهم أن يتم الترويج أن هذا كله يحدث في مدينة تحت حكم "إسرائيل" التي تحافظ فيها على "السلام"، في سياسة إسرائيلية مستمرة للتستر على قبحها أو تزيينه.
سباق على رئاسة بلدية الاحتلال
لمّح عدد من الصحفيين الإسرائيليين إلى ذلك في مقالاتهم المنشورة في الصحف الإسرائيلية، أحدهم عنون في "هآرتس": "الفورميلا 1: السباق هو سباق نير بركات وحده"، ويقول: "ذهبت الرياضة، وبقي "الموتور" - المحرك، في غضون ذلك، الوحيد الموجود في سباق في كل هذه القصة هو نير لبركات، سباق لولاية أخرى [يقصد على رئاسة بلدية القدس الإسرائيلية]".
أما "نير حاسون"، مراسل هآرتس لشؤون القدس، فقد قال في تقريره عن السباق إن من يبحث عن الزواية السياسية للسباق بإمكانه النظر إليه كجزء من سباق أكبر بكثير، سباق الوصول إلى رئاسة بلدية الاحتلال. ويضيف: "يمكن بكل تأكيد تفسير هذا الحدث كجزء من جهود رئيس البلدية الحالي نير بركات ليقول أن هناك شيء ما تغير في المدينة، رغم كلّ شيء، في السنوات التي تولى فيها منصبه". هنا تبدو القدس المحتلة ميداناً للسباقات الانتخابية تكون الشوارع فيها وسيلة دعاية.
سباق على "هوية" المدينة
بعيداً عن السباقات الإسرائيلية الداخلية، ومحاولة "نير بركات" ضمان مقعد رئاسة البلدية له لأربع سنوات قادمة، هناك سباق آخر على هوية المدينة، وعلى صورتها أمام العالم. تصريحات بركات نفسه تؤكد ذلك. إذ قال في إحداها: "لقد صنعنا التاريخ! في طول مسار السباق وقف مئات الآلاف من المشاهدين: عرباً، مسيحيين، يهود، علمانيين، متدينيين، وحريديم. الرياضة توحد الجميع". ولا يغيب عنا هنا أن نشعر بمحاولته دغدغة عواطف المتلقين بأن هذه المدينة "مدينة الجميع ويعيش فيها الكل بوحدة وسلام، وأنه لا أدل على ذلك من تجمعهم لمشاهدة سباق سيارات"، وقد غفل بركات قاصداً عن أشياء كثيرة تجري في هذه المدينة، أبسطها مثلاً "شوارع" من نوع آخر تستقبل الفلسطينيين المشردين بعد قيام بلديته بهدم بيوتهم.
وفي مؤتمر صحفي سبق افتتاح السباق قال بركات: "تنضم القدس للمدن الرائدة في العالم (الرائدة!)، التي تقيم فعاليات دولية للسيارات الرياضية، والتي حضرها مئات الآلاف من المتفرجين الذين يجلبون معهم مساهمة هائلة للاقتصاد والسياحة في المدينة .."، والأهم من ذلك ما قاله بركات حول مساهمة هكذا فعاليات لما أسماه "الصورة العالمية لمدينة القدس". إذن "الصورة" أو "الهوية" هنا هي بعد آخر للسباق.
ختم بركات كلامه بالقول إن مسار السباق خطط بطريقة ممتازة ليجمع بين خلفية أسوار المدينة القديمة والمناظر الطبيعية، داعياً الإسرائيليين لحضوره والاستمتاع بما أسماه تجربة غير اعتيادية، والتي تعتبر واحدة من زخم فعاليات الثقافة والرياضة التي "تجري في مدينة القدس عاصمة إسرائيل"، على حد تعبيره.
هذه الخلفية قالت عنها مؤسسة الأقصى في بيان لها إنها دليل على أنه سباق "تهويدي بامتياز"، وأضافت في البيان إن "وجود المسجد الأقصى وقبة الصخرة وحائط البراق بالاضافة الى أسواق البلدة القديمة في الاعلان الترويجي المصور للعرض يؤكد مخططات الاحتلال لإظهار مدينة القدس على أنها "العاصمة الموحدة لاسرائيل"، وجددت المؤسسة تأكيدها على اسلامية وعروبة وفلسطينية المدينة المقدسة بجزأيها الشرقيّ والغربيّ.
وسباق "الفورميلا 1" ليس الفعالية الوحيدة في القدس، إذ تجري فيها عدة فعاليات ذات طابع تهويدي، منها ما نظم مؤخراً تحت اسم "مهرجان الأنوار" وغيره الكثير من الفعاليات الإسرائيلية التي تزدحم بها الأجندة الإسرائيلية للمدينة.
ويبقى السباق الأكبر على هوية المدينة بحاجة إلى منافسين جادين يصارعون بكل ما يملكون عن هوية مدينتهم.