تفاعل في الأيام القليلة الماضية موضوع زيارة العرب إلى المسجد الأقصى، بعدما زعم إعلام الاحتلال وجود اتفاق رباعي بين كلّ من الأردن والسلطة الفلسطينيّة والإمارات والبحرين لفتح المجال أمام هذه الزيارات وتسهيلها من دون أن يقابلها المقدسيّون بطرد المشاركين فيها. ولم تكن التصريحات الفلسطينية والأردنية حول هذا الاتفاق كافية لدحض الخبر الذي أوردته "إسرائيل اليوم" المقرّبة من رئيس حكومة الاحتلال، إذ إنّ الجهتين لا تبدوان معارضتين لمثل هذه الزيارة إن تمّت عبر "التنسيق مع الأردنيين والفلسطينيين"، مع العلم أنّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس دعا عام 2012 العرب إلى زيارة القدس والأقصى، مصورًا الزيارة على أنّها "دعم للسجين وليست تطبيعًا مع السجّان"، ثمّ كرّر هذه الدعوة في السنوات التي تلت.
وبصرف النظر عن وجود مثل هذا الاتفاق أم لا، فإنّ العنوان المطروح يتعلّق بزيارة العرب للأقصى تحت الاحتلال، لا فرق في ذلك من أيّ باب دخلوا، وتزداد خطورة الأمر اليوم كون الزيارة تُطرح كجزء من اتفاقيات التطبيع بين دولة الاحتلال من جهة وكلّ من الإمارات والبحرين من جهة أخرى، في إطار "اتفاق أبراهام" المنبثق عن الخطّة التي طرحها ترامب لتصفية القضية الفلسطينية والمعروفة بـصفقة القرن.
وحتى مع عدم فوز ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية، فإنّ "الإرث" الذي تركه في ما خصّ القضية الفلسطينية لا ينتهي بعدم انتخابه، واتفاقات التطبيع جزء من هذا الإرث، وكذلك الزيارات التطبيعية للأقصى التي تتفرّع عنها لخدمة الاحتلال ومزاعمه، لا سيّما في الوقت الذي يشنّ فيه حربًا شعواء على الوجود الإسلامي في الأقصى عبر التّضييق على دخول المقدسيّين وفلسطينيي الداخل المحتلّ والفلسطينيين من الأراضي المحتلّة عام 1967، وسياسة الإبعاد عن المسجد، ومحاربة الرّباط فيه.
ومشاركة مسلمين عرب في هذه الزيارات لا يعني أنّها زيارات نصرة للأقصى أو دعم للمقدسيين، بل هي عكس ذلك تمامًا، وذلك لعدد من الأسباب يمكن إجمالها في النقاط الآتية:
أولاً: تتمّ هذه الزيارات في ظلّ احتلال "إسرائيل" القدس والمسجد الأقصى، وهي من هذا المنطلق تعني الرضا بالاحتلال وتسليم القدس للإسرائيليين، وفق ما طرحته صفقة القرن الأمريكيّة، واتفاقات التطبيع العربية. ولن يغيّر من الأمر في حال تمّت مثل هذه الزيارات بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية أو مع الأردن نظرًا إلى أنّها لا تتمّ حتى في هذه الحالة إلا بموافقة الاحتلال والتنسيق معه، ما يعني أنّ المشكلة تكمن في مبدأ زيارة الأقصى تحت الاحتلال لما تعنيه من المشاركة في إسباغ الشرعيّة عليه.
ثانيًا: تصبّ هذه الزّيارات في إطار المساعي الرّامية إلى إعادة صياغة التعريف الإسلامي للأقصى ليصبح مقتصرًا على المصلى القبلي حصرًا وليس كلّ ما دار عليه السور، إذ يورد كلّ من الإعلانين حول التوصل إلى اتفاق تطبيع بين الاحتلال والإمارات وبين الاحتلال والبحرين مصطلح "المسجد الأقصى" من دون اقترانه بمصطلح "الحرم الشريف". ويمكن الاحتلال تحقيق ذلك عبر توجيه الوفود التطبيعيّة نحو أداء الصلاة في هذا المصلى، ما يعني تخفّفه من ضغط المقاومة الشّعبية التي يواجهها في أنحاء المسجد، لا سيما في المنطقة الشرقيّة وباب الرحمة.
ثالثًا: تهدف هذه الزيارات إلى تكريس صورة "إسرائيل" على أنّها تسمح للمسلمين بزيارة الأقصى واختزال الصراع في جزئية الصلاة في المسجد، وهي فكرة ركّز عليها ترامب وصهره بعد الكشف عن صفقة القرن وفي إطار الحديث عن اتفاقات التطبيع التي تتمّ برعاية أمريكية، وقال كوشنر إنّ "اتفاقيات التطبيع ستمكّن المسلمين في جميع أنحاء العالم السفر إلى إسرائيل سواء كان ذلك عبر الإمارات أو عبر البحرين، وسيظهر هؤلاء لأصدقائهم على فيسبوك وإنستغرام أنّ المسجد مفتوح وأنّ إسرائيل تحترم دينهم".
رابعًا: تخدم الزيارات التطبيعية وضع اللمسات الأخيرة باتجاه إنهاء الدور الأردني في الأقصى، وتعيد تعريفه وفق ما نصت عليه صفقة القرن التي قزّمته إلى دور سياحي عندما أشارت إلى "التعاون مع الأردن في مجال السياحة الدينيّة في إطار لجنة مشتركة لتطوير السياحة اليهودية والإسلاميّة والمسيحيّة في دولتي إسرائيل وفلسطين"، على حدّ تعبيرها. ويدرك الاحتلال أنّ إنهاء الدور الأردني في الأقصى، الذي يمثّل الحصرية الإسلامية في المسجد، وإخضاعه للسيادة الإسرائيلية لن يكون ممكنًا من دون الموافقة العربية التي تعني عمليًا تشريع هذا الاتجاه عبر إغراق القدس والأقصى بالوفود العربية المطبّعة. ولعلّ الاتفاق بين دولة الاحتلال وكلّ من الإمارات والبحرين على تسيير رحلات جوية أسبوعية تصل إلى 28 رحلة يصبّ في إطار تغذية هذا المسار وتعزيزه.
خامسًا: العمل على إيجاد خلاف، على المستوى الشعبي، بين الفلسطينيين من جهة والعرب عمومًا من جهة أخرى، على خلفيّة هذه الزيارات التطبيعيّة، ما يمكّن الاحتلال من الاستثمار في هذا الخلاف والبناء عليه. فالمقدسيّون عبّروا عن رفضهم للزيارات التطبيعيّة، ولم تكن زيارة الوفدين العربيين مؤخرًا محلّ ترحيب منهم، تمامًا مثلما طردوا المطبّع السعودي محمد سعود من الأقصى والبلدة القديمة في عام 2019. وفي المقابل، بدأت "جماعات الهيكل" تبثّ رسائل ترحّب فيها بزيارات العرب من الإمارات والبحرين خصوصًا، كما في 2020/10/22، عندما تلا توم نيساني، مسؤول "جمعية تراث جبل الهيكل"، رسالة بالعربية موجّهة إلى العرب المطبّعين يدعوهم فيها إلى التكاتف مع الإسرائيليين لطرد الأوقاف والفلسطينيين الإرهابيين من المسجد. وقد صدرت دعوات "عربيّة" إلى طرد الفلسطينيين من الأقصى وأن تكون الخطوة اللاحقة لاتفاقات التطبيع "تحرير الأقصى لحماية زوّاه من بلطجة الفلسطينيين" فيما بعض التفاعل "العربي" على مواقع التواصل الاجتماعي تعليقًا على طرد الوفد المطبّع هاجم الفلسطينيين على خلفية "طرد المسلمين من بيت الله". وبذلك، ينحرف الموقف العربي الشعبي من رفض الاحتلال إلى تشرّب المزاعم حول "تسامح" الإسرائيليّين الذين يسمحون للمسلمين بزيارة مسجدهم!
إذًا، تتقاطع زيارات المطبّعين العرب للأقصى مع اقتحامات المستوطنين بما هي من زيارات تتمّ تحت حماية الاحتلال وتخدم روايته ورؤيته وأهدافه. كذلك، تصبّ هذه الزيارات باتّجاه تثبيت سيادة الاحتلال على المسجد، وهو أمر لم يتمكّن من تحقيقه منذ عام 1967 عندما حاول وضع الأقصى تحت سيادته بعدما احتلّ الشطر الشرقي من القدس، إذ اصطدم بأنّ مثل ذلك القرار لن يعطيه أيّ شرعيّة، ما اضطرّه حينذاك إلى إعادة الأقصى إلى الأوقاف الإسلامية. وهكذا، فإنّ هذه الزيارات التطبيعيّة هي اقتحامات ظاهرها عربي وباطنها صهيوني يتطلّع الاحتلال إلى التّستّر بها لإحكام قبضته على المسجد.
وعليه، فإنّ هذه الزيارات-الاقتحامات مرفوضة كليًا طالما أنّها في ظلّ الاحتلال، يستوي في ذلك دخول المطبّعين من باب المغاربة أو من أيّ باب آخر، وإنّ الواجب يقتضي التصدّي لها والتعاطي معها تمامًا مثل اقتحامات المستوطنين؛ وهنا تقع المسؤوليّة الأكبر على عاتق أهل القدس للتصدّي لها ومنع تحوّلها إلى أمر واقع يصبح معه الاحتلال صاحب الإرادة والسّيادة.
ويبقى من المهمّ ألا يُستدرج العرب، لا سيما من الدول التي وقعت اتفاقات التطبيع، إلى فخّ هذه الزيارة لأنّ الهدف الذي ينبغي التركيز على تحقيقه اليوم هو تحرير الأقصى وليس زيارته تحت الاحتلال إذ إنّ مثل هذه الزيارة لا تصبّ باتجاه إعمار المسجد بل في خدمة المصلحة والرواية الإسرائيلية وترسيخ قبضة الاحتلال عليه.