يكشف استئناف السلطة الفلسطينية للتنسيق الأمني مع "إسرائيل"- وإنْ جاء في غمرة "البشائر" التي يحملها عهد جو بايدن - أنّ هذه السلطة غير راغبة بل وغير قادرة على الفكاك من القيود السياسية والاقتصادية والأمنية لمعاهدة أوسلو وآليات التطبيق التي خلقها هذا المسار على مدار ما يقارب الثلاثة عقود، ترسخ خلالها الدور الوظيفي الذي أنيط بالسلطة كوكيل للاحتلال في إدارة الحياة المدنية للفلسطينيين والمساهمة في الحفاظ على أمن "إسرائيل".
ولا نتجنّى على أحد عندما نقول الحقيقة حول دور السلطة المبين في الاتفاقات المبرمة، والذي ارتضت به منظمة التحرير الفلسطينية لمرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات، يتم خلالها التفاوض على القضايا السيادية التي سميت بقضايا الحل الدائم وبينها الحدود والقدس والمستوطنات، إلّا أنّ إسرائيل مدّت هذه المدة 21 سنة أخرى، عزّزت خلالها من بنية الاستيطان وفرضت حقائق جديدة على الأرض، حوّلت حل الدولتين إلى مهمّة شبه مستحيلة.
وللحقيقة، فإنّ السلطة الفلسطينية في عهد عرفات وفي عهد محمود عباس حاولت في أكثر من مناسبة التمرد على هذا الواقع ولم تنجح، كان أبرزها الانتفاضة الثانية التي انتهت بقمع المحاولة وإعادة احتلال المدن الفلسطينية ومحاصرة عرفات وتسميمه واعتقال مروان البرغوثي، الذي اعتبرته إسرائيل قائد الانتفاضة، وما زال يقضي في سجونها حتى اليوم.
اختارت القيادة الفلسطينية بزعامة محمود عبّاس، الذي جاء إلى السلطة بعد هزيمة الانتفاضة الثانية، العودة عنوة إلى مسار أوسلو الذي أدخلها إلى نفق المفاوضات العبثية التي لم تجنِ منها شيئا على مدار عقدين من الزمن، كانت الأرض تسحب خلالها من تحت أرجلها، وتتقلّص معها رقعة ما سمي بـ"معسكر السلام الإسرائيلي" ومساحة التأييد العربي والدولي للقضية الفلسطينية.
محمود عباس، الذي اعتبر أهمّ مهندسي أوسلو وقائد التوجه "اللا عنفي" الذي سخر من المقاومة وسلاحها في أكثر من مناسبة، حاول "التمرد"، أيضا، على قيود أوسلو أكثر من مرّة، كان آخرها الوقف الأخير للتنسيق الأمني احتجاجا على خطة ترامب ونوايا الضم، ولكن في كل مرة كان يعود كما عاد هذه المرة، لأنّ "روح" السلطة الفلسطينية التي أنتجتها أوسلو مرتبطة بإسرائيل، ليس فقط لأنها تتحكم بتفاصيل حياة سكان الأراضي الفلسطينية وما يدخل ويخرج من أسواقها، بل لأنّها تتحكم بمعاشات موظفي السلطة وقادتها وبحركة تنقلهم من مدينة إلى مخيم عبر مئات الحواجز والمعابر.
ما فعله أوسلو أنّه أسبغ على هذه السيطرة الإسرائيلية التي كانت نافذة بقوة الاحتلال، شرعية معاهدة دولية موقّعة باسم الشعب الفلسطيني، هي تطبِقْ في ذات الوقت على خناقه بشكل شرعي جدا، وبما يتّفق مع أحكام المعاهدات الدولية.
وعلى الأرض، فإنّ التبادلية في الضرر والفائدة بين طرفي هذه المعاهدة، إسرائيل والسلطة الفلسطينية أصبحت لا تذكر، لأن "إسرائيل" هي الطرف الأقوى والمتحكم بمسار الأمور، فهي التي تستطيع فتح الحواجز وإغلاقها ومنح بطاقات الــvip وسحبها وتحويل أموال الضرائب اللسلطة أو وقفها، وحتى لجهة التنسيق الأمني هي تستطيع الدخول إلى رام الله وجنين واعتقال المطلوبين أو اغتيالهم بعد الحصول على معلومات رسمية أو غير رسمية عن مواقع تواجدهم.
وفي هذا السياق، ليس أن نصوص اتفاقية أوسلو وسلطتها حولت المقاومين إلى إرهابيين مطلوب من السلطة مقاومتهم وتسليمهم لإسرائيل، بل أنّ نهجها أدى أيضا إلى تقليص حادّ لأعمال المقاومة في الضفة الغربية أو المنطلقة منها. لسببين الأول، إقلاع حركة "فتح" وفصائل منظمة التحرير غالبًا عن هذا الأسلوب، والثاني تقليص مساحة نشاط حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في الضفة الغربيّة بسبب الانقسام أساسا. بمعنى أنّ قمع "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في الضفة الغربيّة أصبح قضيّةً داخلية، بغضّ النظر عن قيامهما أو عدم قيامهما بعمليات ضد الاحتلال.
والحال كذلك، فإنّ غصن الزيتون الذي طالب عرفات العالم بعدم إسقاطه من يده خلال خطابه في الأمم المتحدة عام 1974 لم يسقط، بل بندقية المحارب هي التي سقطت أو أُسقطت وبإسقاطها يبدو أنّ إسرائيل تحرّرت من أيّة وسيلة ضغط، وأنّها تستطيع الاستغناء عن خدمات السلطة الفلسطينية في هذا المجال، وقد فعلت ذلك مدة الستة أشهر الأخيرة التي توقف فيها التنسيق الأمني (على ذمة قادة السلطة الفلسطينية).
بمعنى أنّ الأمن الإسرائيلي لم يتضرر نتيجة ما وصف فلسطينيا بوقف العلاقات مع "إسرائيل"، ودفع بالأخيرة إلى تقديم التنازلات بغية استئنافها، بل "اقتصاد" السلطة ورواتب موظفيها هو ما دفع بالأخيرة للعودة للتنسيق الأمني، استنادًا إلى قصاصة ورقة موقعة من قبل ضابط صغير في الجيش الإسرائيلي، لا تعني هويته شيئا في هذه الحالة، تقول إنّ إسرائيل ملتزمة بالاتفاقيات مع السلطة الفلسطينية.
وكأن "إسرائيل" قالت في يوم من الأيام إنّها غير ملتزمة بالاتفاقيات، فحتى عندما كانت تدوس جنازير دباباتها على هذه الاتفاقيات وتعيد احتلال المدن وتهدم المقاطعة وتحاصر الشخص الذي وقّعت معه على هذه الاتفاقيات، كانت إسرائيل تقول إنّها ملتزمة بالاتفاقيات وتتهم الفلسطينيين بخرقها، ولكنها - بالرغم من ذلك - اكتفت بإرسال قصاصة ورقة وقعها الضابط كميل أبو ركن، إرضاء لحسين الشيخ الذي لوح بها للعودة إلى أحضان التنسيق الأمني.
أمّا الحقيقة، فهي أنّ أموال 3 مليارات دولار من الضرائب لم تستطع السلطة تغطيتها من أي مصدر آخر، هو ما يقف وراء هذه العودة ويعيد طرح سؤال ارتباط هذه السلطة بحبلها السري - مسار أوسلو - بمعنى أن لا فكاك بين السلطة وأوسلو وبين أوسلو والسلطة، وأيّ حديث عن تغيير دورها ووظائفها هو نو ع من اليوتوبيا.
المصدر: عرب 48