الضفة المحتلة- خاص قُدس الإخبارية: الضابط في جيش الاحتلال يسأل: "عرضوا عليك تبيع البيت؟، "بالفعل، عرضوا" يردّ سعدات غريب، لكن المحقق الذي يجيد اللغة العربية قدم عرضًا جديدًا: "بدي اعطيك مبلغ بسعر اليوم، وجواز سفر، والمبلغ الذي تريده سيتم توفيره لك، وخذ من عيلتك اللي بدك اياه، وحدد الدولة التي تناسبك، وما تضل بين المستوطنين والمشاكسة".
سعدات لم يرث الأرض عن والده فقط بل ورث الثبات، فاستحضر كلام والده حينما رد على المستوطنين قبل عقد من الزمن في رده على الضابط: "لو تدفعوا مال (إسرائيل) في الداخل والخارج مش حبيع (لن أبيع) البيت أو أتنازل عن الأرض".
من بوابة إلكترونية، تتحكم فيها قوات الاحتلال الإسرائيلي، يعبر سعدات غريب وعائلته إلى منزله الذي بات وسط مستوطنة "جفعون حداشا" الجاثمة على أراضي قريبة "بيت اجزا" الواقعة شمال غربي القدس المحتلة، وتراقبه الكاميرات على مدار الوقت، ويفصله السياج عن بيوت المستوطنين، وكذلك سياج يفصله عن ما تبقى من أرضه المزروعة بالزيتون والعنب.
مع موسم قطف ثمار الزيتون، في أرضه البالغ مساحتها 60 دونمًا وواقعة خلف الجدار، ولا يفصله عنه سوى مسير ثلاث دقائق، يعيش سعدات غريب رحلة كفاح وصمود متجددة كل عام، يتحمل كل المنغصات، لأجل "أن تبقى الأرض، ولا تصبح مهجورة" هذه الذريعة التي ينتظرها الاحتلال للسيطرة عليها.
ومنذ مطلع 2020، حرق المستوطنون واقتلعوا 7 آلاف شجرة زيتون، ونحو 130 منطقة أغلقها الاحتلال ومنع المزارعين من الوصول إليها، تضم نحو 4 آلاف دونم مزروعة بأشجار الزيتون، كما أن هناك 50 ألف دونم من أشجار الزيتون تقع داخل جدار العزل.
مهلة غير كافية
بدأت معاناة عائلة غريب، عام 1979م، حينما أنشأ الاحتلال المستوطنة على أراضي قرية "بيت إجزا"، حينها صادر الاحتلال 40 دونما من أرض والده صبري غريب، وتبقى 60 دونما، أصبحت داخل الجدار بعد عام 2004م، ولا يسمح الاحتلال لهم بدخولها إلا مرتين كل عام من البوابة الزراعية؛ واحدة للحراثة والثانية لجني الزيتون من 250 شجرة زيتون يزرعها.
تنهد قبل أن يروي لشبكة "قدس الإخبارية" معاناته مع جني الزيتون، وفي صوته مسيرة طويلة من المعاناة: "تخيل يعطيك الاحتلال مهلة أسبوع لجني كل هذه الأشجار، فأقوم بتجهيز عشرة عمال لمساعدتي، لكن عند البوابة لا يسمح بدخول إلا عاملين فقط، بساعات عمل يومية لا تزيد عن أربع ساعات (..) أدخل أرضي بشعور المقهور الذي لا يتحكم بملكه، لكن أملنا أنه لن يعمر ظالمٌ في أرضنا، ولا زلت مستعد للتضحية بكل شيء ليبقى منزلي شوكة في حلق المستوطنة، ولتبقى أرضي معمرة غير مهجورة".
احتاج لأن يشهق طويلا هنا، بلهجة عامية تبعتها نبرة صوت غاصبة: "عندي 60 دونما، مفروض خلال خمس دقائق أكون بالأرض، اللي بشوفها من منزلي، لكن بالوقت الحالي بتاخد معي مسافة ساعة إلا ربع، حتى أصل الأرض (..) صرت أنزل وادي، وأطلع جبل".
أرض مهجورة
يسير سعدات في طريق صعبة، وعرة، لا يدخلها جرار زراعي، سوى بعض الدواب فيحمل عليها أكياس الزيتون التي يستطيع جمعها، خلال المدة التي سمح له الاحتلال بها، وغالبا ما تترك كثيرا من حبات الزيتون معلقة على أشجارها، لم يستطع جنيها، فتسقطها الأشجار لاحقا على الأرض، "كما أن الاحتلال لا يسمح لنا بتقليم الأشجار وحراثة الأرض، وهذا هدفه جعلها مهجورة وأرض خراب كي يسهل عليهم الاستيلاء عليها، فنحاول المحافظة عليها ما نستطيع، خلال الفترة التي يسمحون لنا بالدخول إلى الأرض" يقول.
ينبش في تفاصيل معاناته السنوية مع الاحتلال، قائلا: "مما أعاني منه تأخير دخولي للأرض، خاصة لأن بيتي داخل مستوطنة، فيأتي حراسها كل عام عند البوابة الزراعية، ولأنهم يعرفونني جيدًا، يطلبون من ضباط جيش الاحتلال، عدم السماح لي بدخول الأرض، فضلا أنهم يجعلون الأرض مكبًا لنفايات المستوطنة، ومنذ خمس سنوات رفعت قضية لدى محاكم الاحتلال للسماح لدخول مساحين ورفع قضية، إلا أنهم لم يستجيبوا".
ربما تكون قصة سعدات مختلفة، لكنها تجسد معاناة الفلسطينيين عند نقاط التماس في معاناتهم السنوية في حصاد الزيتون.
حرب شرسة
حرب شرسة، وهجمات متتالية، تعرضت لها أراضي وأشجار الزيتون للحاج وليد سعيد عيد من قرية بورين، على طرف سماعة الهاتف الأخرى، يقص لـ"قدس الإخبارية" رحلة معاناته في جني الزيتون هذا العام، قائلا: "أعاني كغيري من أصحاب الأراضي في مستوطنة "هيتسار"، المقامة على أراضي قرية "بورية" (..) لدي 1500 شجرة زيتون، لم أجني سوى ربع زيتونها هذا العام، كما أنهم قبل شهرين جرفوا ستين شجرة لي، وقصوهم، و30 زيتونة في منطقة أخرى".
تفاصيل المعاناة لم تنته بعد: "هناك أراض لي لم أدخلها إلا ساعة واحدة، وأراض وجدت المستوطنين قد اعتدوا عليها، بتكسيرها، وبالأمس ذهبت إلى أرض لي مساحتها 40 دونما فوجدت جيش الاحتلال قد خرّب أشجارها".
يلخص معاناته، بكلمات عفوية وتنهيدة تروي ما يعيشه مزارعو الزيتون: "السنة أكثر سنة المستوطنين متغولين علينا، أكثر شراسة، وطبعًا جيش الاحتلال معهم، وإذا شافوا ناس طالعين من أرضهم، بصادروها وبحرقوا أشجارها".
يعود الحاج بذاكرته لأيام زمان، "كنا قبل الاعتداءات ننتظر موسم الزيتون، بفارغ الصبر، نستيقظ باكرًا، مع أمي وجدتي وأخوتي، ونذهب مع أفراد العائلة، نتباهى بكثرة أعدادنا، ونمضي أياما لا تنسى بين أشجار الزيتون، نلقط حباتها، ونغني ونعزف أهازيج الفرح على وقع تلك الأجواء ونستمر في قطف الزيتون".
يتحسر على واقع حاله بنبرة صوت ممزوجة بالألم: "الآن هناك تنغيص يومي، فلا تستطيع عيش تلك الأجواء إلا إذا امتلكت أرضًا داخل المدن وبعيدًا عن مستوطناتهم (..) يريدون ترحيلنا وترك الأراضي لهم لكننا سنبقى مغروسين فيها لأنها مغروسة في جذورنا، وتبقى تلك الأيام محفورة في ذاكرة".
صباح تشريني
في صباح تشريني مليء بنفحات هواء باردة تنعش الأرواح، ورائحة أرض مروية بعد ليلة ممطرة، تعطي إشارة بدء موسم "الحصاد" فترى فلاحًا يداعب حبات الزيتون، تشابه تجاعيد وجهه، شقوقًا تخط طريقها بين جذعها، يرسمان حكاية "عشق" تتجدد كل عام، ويجدد عهد الارتباط بينهما وتغرس الشجرة جذورها في قلبه، بين الحقول تعيش على وقع عرس تراثي في طقوس وتقاليد متوارثة، تجمع جميع أركان العائلة، أو ترى صاحبة "الأيادي الناعمة"، الفتيات، والحجات يتجمعن أسفل كل شجرة وحولها يلتقطن حباتهن ويغنين له: "على دلعونا وعلى دلعونا.. زيتون بلادي أجمل ما يكونا.. زيتون بلادي واللوز الأخضر، والميرامية ولا تنسى الزعتــر.. وقراص العجــة لمـا تتحمـــر، ما أطيب طعمها بزيت الزيتونا، راجعة للمات "أيام زمان".
"كلما أقبل الموسم هاجت ذكرياتي وتفتحت شهيتي للحياة وللأرض وللقرية التي أحب وأعيشها وتعيش في قلبي، يأتي الموسم فأعود شاباً مليء الحنين لأيام الزيتون أيام الشباب، الشباب الحقيقي الذي صَقلته الفِلاحة وجوهره التعب في الأرض؛ فهو موسم العشق بالنسبة لي.. أعشق الأرض وأعشق شجرة الزيتون وأعشق التراب الذي أُلامسه وأنا أجمع من فوقه حبات الزيتون، أعشق هذا الموسم بغناه وبكل تفاصيله رغم تعبه ومشقته".
موسم خير لا يرجى نقصانه
تُبشر نهارات تشرين الأول فلاحي بلادنا بالخير الآتي من موسم جداد الزيتون، مثل تلك اللهفة التي يعيشها المزارع حمزة العقرباوي (36 عاما) من قرية "عقربا" قضاء نابلس، فتشحذ فيهم الهمم للانطلاق لموسم لا مثيل له، إذ هو ركيزةٌ أساسية في اقتصاد البيوت، فـ الزيت عماد البيت"، وهذا الموسم هو أبو المواسم الزراعية لديهم.
بالنسبة لعقرباوي الزيتون "موسم لا يُمل وخيرٌ لا يرتجى نُقصانه، وأيام أحبها وأنتظرها وأتمنى لو تطول (وكل ما طالت بتلم غمور)، وكلما غَرُبَتْ شمس يومٍ فيه تَرقبتُ صُبحَ عِشقي التالي.. وهذا العشق للموسم والأرض وشجر الزيتون هو مما لا يتحصل بالحديث عنه، وإنما بالتعب والكد بالأرض والعيش بشغف في تفاصيل هذا الموسم".
لأيام الموسم في نفسه حيز كبير، وتفاصيل تتزاحم، ومشاهد لا تغيب، يقول: "عرفت هذا الموسم، طفلا، فصبيا، ففتيا، ثم شابا يعين والديه، ويعتمد على نفسه، وأخيرا بمرض والدي وقعوده عن الفلاحة، وصرت الوارث لميراث أجدادي، والقيم على أرضهم فلاحة وعناية وحراثة".
يسترجع أيام طفولته: "في طفولتي كانت تشغلي أسئلة كثيرة وأعجز عن فهمها ولعل منها سر تعلق أبي بزيت الزيتون الذي جعله طعام عشائه لأكثر من ٢٠ سنة.. وهو حاضر في إفطاره صباحا، حتى أنه من المعلوم والمُسلم به على مائدة الطعام في بيتنا: (أن من الكبائر التي قد ترتكبها أمي أن تعد الافطار لأبي وليس على تلك المائدة صحن زيت)، رافقتني أسئلة كثيرة وما فهمتها إلا لما صرت فلاحاً يُعتمد عليه ويتولى مهمة الأرض ورعايتها".
في حديثه غصة ألم: "أغنى ذكرياتي مع موسم الزيتون كانت بعد الانتهاء من الثانوية العامة في العام 2002 حتى العام 2014 وهي الأعوام التي كنت أتفرغ بها طوال الموسم لأشارك أبي وعمي في هذا الجُهد ومعنا أمي وزوجة، ولكن للأسف توفي أبي".
"في مواسم قطاف الزيتون المتتالية لا أذكر أن عاماً من بين تلك الأعوام مضى من غير عونة أو فزعة من قبل الأصحاب والأحباب والاخوة الأعزاء، ما أثرى ذاكرتي وأغنى علاقتي بالزيتون، فأنا كلما جاء الموسم تذكرت رفقة الزيتون وهمتهم وما سعدنا به من صحبةٍ ورفقةٍ تحت ظلال هذه الاشجار المُباركة " ينسى عقرباوي نفسه بين حبات الزيتون وهو يقطفها واحدة تلو الأخرى.
ماذا يمثل لك موسم الزيتون!؟ إجابة مشحونة بذكرياته مع والده "في هذا الموسم المبارك أتذكر أبي وصلاته، صلاة أبي كانت ترزقني الطمأنينة وتشعرني بالراحة، كنت أنظر إليه يقيم الصلاة ويعلي بها صوته ثم يقول: الله أكبر بيدين مرفوعين ثم يرمى بصره موضع سجوده ويهاجر إلى الله مُصلياً".
تأبى ذاكرته ترك ذكريات الموسم "وأنا فتي في أول عمري، ولا يغب عني عملي بالجد ونقلي للزيتون على ظهر الحمار، أيامها كانت الدواب عندنا، ولا نشتريها قبل الموسم، لأن سعرها يصير ضعفين إذا أقبلت مواسم الحراثة والحصاد أو قطاف الزيتون".
لا زال يغوص في حبه لهذا الموسم وذكرياته مع العائلة "فيه نجتمع أطول وقت معاً، نحكي ونتحدث ونعمل ونمضي يومياً قرابة العشر ساعات معاً، وحين نعود للبيت مع الغروب يتجدد اللقاء سمرًا وسهرًا على البرندة (الحضير)، حيث كانت تجلس أمي وزوجة عمي وجدتي رحمها الله، لانتقاء حبّات الزيتون الأفضل لتكون مونتنا من الرصيع، ويتسلم أبي وعمي دفة الحديث وأنا مطرق مستمع أدون أحياناً وأعلق وأعيد السؤال.. ولأن الحديث يجر الحديث، يمضي بنا الوقت لساعات قبل أن ينتبه أحدهم لأننا تأخرنا فينفض مجلسنا المليء بالحكايات والذكريات ونخلد لنوم نترقب صبحه الجديد".