هناك وجهة نظر ترى أن نجاح المرشح الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الأميركية سيضعف كثيرًا إمكانية إجراء الانتخابات الفلسطينية، كونه سيقوي موقف السلطة وحركة فتح في حواراتها مع حركة حماس.
وهناك من يقول عكس ذلك تمامًا بأن نجاح بايدن سيزيد من فرص إجراء الانتخابات، كونه سيعيد تصوّر إدارة باراك أوباما، التي هدفت إلى إدماج "الإسلام السياسي المعتدل" في الأنظمة السياسية القائمة في المنطقة العربية، وفي السلطة الفلسطينية.
وهناك من يقول إن نجاح دونالد ترامب، ومعارضته المتوقعة لتجديد شرعية السلطة ودمج "حماس" من دون موافقتها على رؤيته، سيزيد من فرص اندفاع الفلسطينيين نحو الوحدة والانتخابات، لأنه يمثل استمرارًا للتهديد الذي تضمنته رؤيته لحل الصراع، وهي مرفوضة من الغالبية الساحقة من الفلسطينيين.
من الصعب الحسم بصحة هذه الآراء بشكل مطلق، فلكل منها حيثيات لا يمكن إنكارها، مع أهمية رؤية أن إجراء الانتخابات ليس قرارًا فلسطينيًا فقط، على أهمية الموقف الفلسطيني وحسمه إذا توفرت الإرادة اللازمة، وإنما يتأثر بشدة باللاعبين الإسرائيلي والأميركي أساسًا، واللاعبين والمحاور العربية والإقليمية والدولية.
في هذا السياق، ذكر مصدر أن مرسوم الانتخابات الفلسطينية لن يصدر قبل معرفة نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، فيما جزم مصدر آخر بأن المرسوم سيصدر خلال أيام، بعد استكمال الحوارات الداخلية.
عود على بدء، هناك من يعتقد أنه إذا فاز بايدن لن تكون هناك انتخابات قريبة، لأن السلطة ستخشى من إغضاب الإدارة الجديدة التي تراهن عليها، كون بايدن ضد رؤية ترامب وخطة الضم، وأعلن عزمه على إعادة فتح مكتب المنظمة في واشنطن، واستئناف العلاقات الأميركية الفلسطينية، والدعم الأميركي للسلطة ولوكالة غوث اللاجئين (الأونروا)، إضافة إلى تعهده بإعادة وضع القنصلية الأميركية المقامة في القدس قبل 144 عامًا إلى ما كانت عليه قبل دمجها مع السفارة الأميركية بعد نقلها من تل أبيب إلى القدس، من بقاء السفارة الأميركية في القدس، فضلًا عن توقّع بأنه سيعمل مع المجتمع الدولي واللجنة الرباعية الدولية من أجل التوصل إلى تسوية، من خلال العودة إلى سياسة إدارة الصراع، مع تشجيع استئناف المفاوضات ومسيرة التطبيع العربي مع إسرائيل؛ أي أن بايدن يمكن أن يعيد أو سيحاول إعادة السياسة الأميركية إلى ما كانت عليه قبل ترامب.
أما الرأي المعارض، فيرى أن بايدن يريد إدماج حركة حماس في النظام السياسي الفلسطيني، ولكن بشرط اعتدالها ومنحها ضوءًا أخضر للمفاوضات واستمرار التهدئة.
ثمة رأي آخر يرى عدم وجود فرق بين ترامب وبايدن، وكلاهما وجهان لعملة واحدة، بدليل ما صرح به بايدن "ليس شرطًا أن تكون يهوديًا لكي تكون صهيونيًا".
تحكم السياسة الخارجية للولايات المتحدة محددات ملزمة وخاضعة لاعتبارات لا يتحكم بها الرئيس الأميركي، وإنما ما يسمى "الدولة العميقة". ويعزز هذا الرأي أن السياسة الأميركية كانت دائمًا ثابتة في دعم "إسرائيل"، وضمان أمنها وتفوقها العسكري على العرب مجتمعين، وفي التنكر للحقوق الفلسطينية، حتى المتضمنة في القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، بدليل استخدامها الفيتو في مجلس الأمن لصالح إسرائيل 43 مرة، وتقديم مساعدات مدنية وعسكرية بمليارات الدولارات سنويًا. ففي عهد أوباما جرى توقيع اتفاقية تقضي بتقديم عشرات المليارات لإسرائيل خلال عشر سنوات.
وثمة رأي ثالث ينطلق رغم صحة أن دعم إسرائيل والانحياز لها ثابت حتى الآن من الثوابت التي حكمت السياسة الأميركية، انطلاقًا من العلاقة العضوية الإستراتيجية التي تربط واشنطن بتل أبيب، لكنه يرى فرقًا بين دعم إسرائيل الذي مارسه الرؤساء الأميركيون منذ هاري ترومان وحتى باراك أوباما، وبين دعم اليمين المتطرف الإسرائيلي الذي يمارسه ترامب، إذ انتقل من سياسة دعم "إسرائيل" بالترافق مع سياسة إدارة الصراع، وتشجيع التوصل إلى تسوية بالتفاوض مرجعيتها عملية التفاوض نفسها وما يتفق عليه الطرفان، إلى سياسة الشراكة الكاملة مع الاحتلال الاستعماري الاستيطاني العنصري، والسعي لحسم الصراع من خلال التبني الكامل لرؤية اليمين المتطرف الإسرائيلي، كما يظهر في كل الخطوات التي قامت بها إدارة ترامب من نقل السفارة، إلى طرح رؤية ترامب، وما تعنيه من مؤامرة لتصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها.
"لماذا لا نراهن على نجاح بايدن، فكل العالم يراهن عليه؟" هذا ما قاله مسؤول فلسطيني، وهذا لا يقتصر على طرف فلسطيني واحد، فهناك طرف يراهن عليه لاستئناف المفاوضات، مقابل طرف آخر يراهن عليه لإعادة إنتاج السياسة الأميركية السابقة التي دعمت "الإسلام السياسي المعتدل" ودمجه في الأنظمة العربية في مواجهة "الإسلام السياسي المتطرف"، مع ملاحظة تراجع الرهان على "الإسلام السياسي المعتدل" بعد انحسار موجة "الربيع العربي".
هناك فرق بين ضرورة رؤية الفرق المهم بين ترامب وبايدن وأخذه في الحسابات السياسية، وبين المبالغة فيه والرهان عليه، والقفز عن حقيقة أن رؤساء الحزب الديمقراطي يدعمون اللاءات الإسرائيلية المعروفة (لا عودة إلى حدود 67، والقدس عاصمة إسرائيل الموحدة، وتبني الرواية التاريخية للحركة الصهيونية، والدفاع عن حق إسرائيل في الوجود بوصفها دولة "يهودية"، ورفض حق اللاجئين بالعودة، واعتبار الأرض والاستيطان وكل شيء مسألة نزاع تحل بالتفاوض، وهذا يعطي الاحتلال القوي والمسيطر على الأرض ميّزة خلق الوقائع التي تناسبه، والتي تصادر مضمون المفاوضات وتضعها في النهاية أمام ما تريده إسرائيل، والتزاموا – رؤساء الحزب الديمقراطي - بدعم إسرائيل وحفظ أمنها وتفوقها العسكري على العرب مجتمعين وجعلها دولة فوق القانون الدولي).
ويتجاهل أصحاب الرهان على بايدن أولًا أن الرئيس الأميركي، أيًا كان، ليس صاحب القرار الأوحد، بل هناك مصادر عدة تؤثر على اتخاذ القرار، أهمها الكونغرس الذي هو من أصدر قانون نقل السفارة الأميركية. وثانيًا، أن بايدن سيواجه "إسرائيل" أكثر يمينية وتطرفًا، والسائرة نحو المزيد من التطرف، بدليل صعود حزب "يمينا" بزعامة نفتالي بينيت في استطلاعات الرأي الأخيرة (تمنحه 22 عضوًا في الكنيست من أصل 120)، وأنه لن يجازف بالصدام الكبير معها. وثالثًا، وجود تحوّل في النظام العربي نحو تغيير الأولويات، إذ لم تعد القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للعرب الرسميين، وإسرائيل لم تعد العدو، بل حليف في مواجهة المخاطر المشتركة، وبالتالي لن يواجه بايدن ضغطًا عربيًا لكي يضغط على إسرائيل، بل سيغريه أكثر ممارسة الضغط على الفلسطينيين لتليين موقفهم.
كما يغفل المراهنون على بايدن أن أولوياته الملحة بعد كورونا وتداعياتها الاقتصادية لن تكون القضية الفلسطينية والمنطقة العربية التي تراجعت أهميتها، بعد أن أصبحت الولايات المتحدة مصدرة للنفط، وفي ظل تقدم الصراع والتنافس مع الصين وروسيا الذي له أولوية على أي صراع آخر، فضلُا عن أن بايدن ممكن أن يعيد الاتفاق النووي مع إيران.
وإذا عدنا إلى مرسوم الانتخابات، وهل سيصدر قبل الانتخابات الأميركية أم بعدها؟ الجواب ليس هذا هو المهم.
فقد يصدر غدًا ولا تجرى الانتخابات لأن موعد إجرائها سيكون بعد الانتخابات الأميركية في كل الأحوال، وستؤثر عليها نتائجها. وقد يصدر بعد الثالث من تشرين الثاني القادم وتكون أو لا تكون هناك انتخابات، فإجراؤها يعتمد على مدى توفر الإرادة الفلسطينية ونتائج الحوار الثنائي بين حركتي فتح وحماس، والحوار الفلسطيني الشامل، وعلى موقف واشنطن وتل أبيب والإقليم والعالم، حيث لاحظنا أن العرب كانوا إما متحفظين أو صامتين منذ بدء الحوارات الفلسطينية الداخلية، في حين أعطى العالم والأمم المتحدة وغيرهما من الأطراف الدولية، خلافًا للإدارة الأميركية، تأييدًا ضعيفًا.
والجدير ذكره أن رونالد لاودر، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، نصح - وفقًا لمصدر مطلع - الرئيس محمود عباس، خلال لقائهما يوم السبت الماضي، بعدم إجراء الانتخابات في هذه المرحلة، خشية من أن ضم حركة حماس إلى النظام السياسي الفلسطيني سيقود إلى المزيد من التوتر بين السلطة وإسرائيل. أما عدم إجرائها واستئناف المفاوضات المفتوحة مع إسرائيل، على أساس رؤية ترامب، مع الاعتراض على بعض البنود الواردة فيها، فسيحدث انفراجة في الوضعين السياسي والاقتصادي للسلطة الفلسطينية.
في المقابل، من المتوقع أن يدعم بايدن إذا فاز، حال عدم وجود معارضة إسرائيلية شديدة، إجراء الانتخابات الفلسطينية وتوحيد الفلسطينيين، إذا كان على أساس التهدئة وموقف معتدل يساهم في استئناف المفاوضات للتوصل إلى "حل الدولتين"، على أن تقوم على مساحة أكبر مما هو مطروح في رؤية ترامب، ولكن من دون أن تمتلك أيًا من مقومات السيادة.
إن الانتخابات في مرحلة التآمر والضغوط على القيادة الفلسطينية للرضوخ أو لاستبدالها بقيادة جديدة، ضرورية لمنح الشرعية للسلطة الفلسطينية، ولإدماج حماس فيها. ولكن هناك عقبات كثيرة داخلية وخارجية أمام عقدها، ومفتاح التغلب عليها يكمن في إدراك أن الانتخابات ليست عصا سحرية، وتوفير مستلزمات أن تكون خطوة إلى الأمام وليس لتكريس وإدارة الانقسام، وخطوة في سياق تطبيق حل الرزمة الشاملة الكفيل بإنهاء الانقسام وتجسيد الشراكة الكاملة.
الخلاصة
إن رؤية الخلافات بين ترامب وبايدن رغم الإستراتيجية الأميركية الواحدة، وإجراء الحسابات على هذا الأساس، مهم جدًا، بما يعنيه ذلك بأن بايدن سيئ وترامب الأسوأ، ومن يراهن على بايدن سيحصد الريح، فالرهان يجب أن يكون على ترتيب البيت الفلسطيني، على أساس وطني وشراكة حقيقية، وبما يضمن التغيير والتجديد والإصلاح، ومغادرة الرهانات والحسابات الخاطئة على جدوى استمرار الانقسام، أو اليأس من إمكانية تحقيق الوحدة على أمل حصول تغيير في الظروف المحيطة، والأوهام حول إمكانية التوصل إلى تسوية عن طريق المفاوضات برعاية اللجنة الرباعية وحدها أو بعد ضم أطراف عربية وغير عربية.
لن تكون هناك تسوية تحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، سواء أفاز ترامب أم بايدن، من دون أن يكون العامل الفلسطيني موحدًا وفاعلًا وقادرًا على الاستفادة من الخلافات ما بينهما بتعظيم الفوائد وتقليل الأضرار، وعلى أساس رؤية جديدة وإستراتيجية موحدة وطنية وواقعية، تبني على ما تحقق، وقادرة على التحليق فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا، وعلى أساس تعزيز الصمود الفلسطيني، والسير نحو مقاومة مثمرة متصاعدة، وصولًا إلى انتفاضة شاملة قادرة على تحقيق إنهاء الاحتلال وتجسيد الحرية والاستقلال.