أقولها بالفم الملآن، وبكل ثقة: إن الدعوة إلى الانتخابات في الوضع الفلسطيني الحالي إذا لم يسبقها إنهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات، لن تحدث، وإذا حدثت ستكون مغامرة غير محسوبة العواقب وقفزة في المجهول، وستكرس المحاصصة وإدارة الانقسام، أو مجرد مناورة لكسب الوقت، وصولًا إلى معرفة من سيفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وعندها لكل حادثة حديث.
وهي تهدف إلى تحقيق أهداف تكتيكية، مثل الحصول على شرعية الإجماع، والتهديد بأوراق يمكن للفلسطينيين جمعها واستخدامها إذا استمرت عملية تصفية القضية، في حين أن المطلوب استخدام هذه الأوراق ضمن إستراتيجية موحدة ونضال طويل الأمد وليس مجرد تكتيك.
ما يدفع إلى قول ما سبق التجارب الفاشلة السابقة التي اعتمدت على الحوار الانتقائي والاتفاق الثنائي، والتعامل مع الفصائل الأخرى كشاهد زور، ومن دون اعتبار لرأي الشعب وإرادته ومصالحه ومشاركته، وتجاهل قضايا الخلاف الأساسية، وأسباب الانقسام وجذوره، والتركيز على الجوانب الشكلية الإجرائية، مثل تشكيل حكومة وحدة أو وفاق، أو تمكين الحكومة، أو إجراء الانتخابات، أو عقد اجتماع الأمناء العامين، أو تشكيل لجنة تحضيرية لعقد المجلس الوطني، بمعزل عن المضمون والاتفاق على الهدف الوطني المركزي الإستراتيجي، وعلى كيفية تحقيقه، وأشكال النضال المناسبة والمثمرة في هذه المرحلة.
فعلى سبيل المثال، لا يمكن التقدم إلى الأمام من دون حسم والاتفاق على انتهاء وسقوط ما سمي عملية السلام التي انطلقت منذ مؤتمر مدريد وحتى الآن، والاتفاق على استحالة التوصل إلى عقد مؤتمر دولي على أساس الشرعية الدولية ينجز تسوية تفاوضية تحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، من دون الكفاح المستمر لتغيير الحقائق على الأرض وموازين القوى، بما يسمح بإنهاء الاحتلال، وتجسيد الدولة المستقلة ذات السيادة، وبقية الحقوق المكرسة في البرنامج الوطني، وعلى رأسها حق العودة والتعويض.
ولا يمكن التقدم إلى الأمام من دون حسم مسألة أشكال المقاومة، فلا يكفي الحديث عن المقاومة الشعبية وغيرها، فكل طرف يريدها بشكل مختلف جدًا، بين من يطالب بالمقاومة المسلحة، وبين من لا يرى سوى المقاومة السلمية، وبين من يجمع لفظيًا أو عمليًا بينهما.
ولا ينفع خوض الانتخابات من دون حسم مصير السلطة وتغييرها لتكون سلطة موحدة في خدمة الإستراتيجية والقيادة الموحدة، فهل سنبقى في إطار أوسلو الذي أوقفنا العمل بالتزاماته؟ وهل ستُجرى انتخابات لمنح سلطة أوسلو شرعية جديدة أم انتخابات دولة؟ وهل ستجرى في القدس بالشروط المذلة القائمة والواردة في اتفاق أوسلو، والمتمثلة بالتصويت في صناديق الاقتراع، وضمن حد أقصى لا يزيد عن 6 آلاف منتخب، أم سنستخدم التمثيل النسبي كمخرج لتصويت أهل القدس أينما شاؤوا داخل الجدار وخارجه، أم يجب وضع التصويت بالقدس كقضية كفاحية، بحيث توضع صناديق الاقتراع في المسجد الأقصى وكنيسة القيامة والمدارس داخل البلدة القديمة وخارجها؟
كما لا ينفع الحديث عن إجراء الانتخابات والعودة عن ذلك المرة تلو الأخرى، وكذلك المضي بإجرائها تحت الانقسام وكأنه تفصيل لا يمس بالعملية الانتخابية، ومن دون حكومة وحدة توفّر أجواء الثقة واحترام حقوق الإنسان وحرياته، وتحارب الفساد، وتوحّد المؤسسات، خصوصًا القضاء الذي سيحسم الأمر عند حدوث أي خلافات أو تزوير أو عدم احترام النتائج، وتوحيد وتجديد وإصلاح وتنظيم الأجهزة الأمنية والموظفين المدنيين تحت قيادة واحدة وسلطة واحدة وسلاح واحد، والاتفاق على أن يكون سلاح المقاومة في جيش واحد، أو يتبع لمرجعية واحدة وإستراتيجية واحدة وقيادة واحدة.
لا يمكن البدء بالانتخابات التشريعية حصرًا بحجة عدم حصول فراغ مع إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في وقت واحد، مع أن الأمر سيحسم خلال 24 ساعة من دون أي فراغ إذا جرت متزامنة.
ولا يعقل التركيز على الانتخابات فقط واعتبارها المدخل، وهي أمر ليس بيدنا وحدنا، بل في ظل الانقسام بيد الاحتلال الذي يعد - شئنا أم أبينا - لاعبًا رئيسيًا يستطيع أن يمنع أو يسمح أو يتدخل بالعملية الانتخابية في مختلف مراحلها، ما دمنا غير موحدين ومنقسمين وغير قادرين على إحباط تدخلاته، وفي أجواء عدم الثقة بين طرفي الانقسام، وبين الشعب والقيادة والقوى، وفي ظل البنية التي نشأت بعد 14 عامًا من وقوع الانقسام، وما ترتب عليها من مصالح وأوضاع سياسية وقانونية واقتصادية وأمنية وثقافية.
لا أعرف من أين يأتي من يتحدث بأن الاحتلال سيسمح بإجراء الانتخابات بثقة كاملة، ونحن نعرف مدى تطرف الحكومة الإسرائيلية الحالية وعنصريتها وعدوانيتها، ومدى انسجامها مع إدارة ترامب التي لن تضغط عليها لإجراء الانتخابات كما جرى في المرة السابقة إذا فاز ترامب، ولن تخضع حتمًا وبالضرورة لضغوط الإدارة الأميركية بإجراء الانتخابات الفلسطينية إذا فاز بايدن.
يمكن أن تسمح حكومة نتنياهو بإجراء الانتخابات مع استمرار تدخلاتها المعتادة باعتقال المرشحين والفائزين الذين تريد اعتقالهم إلا إذا ابتعدنا عن ترشيح الرموز والمقاومين وأبطال المقاطعة في حالات عدة، منها عندما ترى أن الانتخابات منصة لتعميق الانقسام الفلسطيني وستشرعنه إلى الأبد، وستكرس القدس كعاصمة أبدية موحدة لإسرائيل، أو أن تأتي الانتخابات لشرعنة السلطة الجديدة التي سيجري محاولة خلقها لتناسب مرحلة رؤية ترامب والضم والتطبيع.
باختصار: الوضع الفلسطيني يمر بمرحلة استثنائية والمخاطر التي تهدده أكبر من السابق، وهذا لا يجب التعامل معه بخفة وانتظارية وانتقائية وتجريبية.
وتبقى هناك نافذة كبيرة للأمل إذا تحققت الوحدة استنادًا إلى الموقف المشترك المتخذ ضد رؤية ترامب والضم والتطبيع، شرط أن تتحقق الوحدة في مواجهة الاحتلال باعتبار ذلك الأولوية التي تخضع لها القضايا الأخرى، بما فيها الانتخابات التي يجب أن توضع في سياق مواجهة الاحتلال لفرضها عليه.
فمن يقول إن إنجاز الوحدة مستحيل وينادي بالانتخابات وكأنها العصا السحرية متجاوزًا كل العوائق، وبغض النظر عن توفير مقومات أن تكون انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها، وتأتي في سياق النضال التحرري الذي يخوضه الشعب الفلسطيني؛ فشأنه شأن من يقول لنقفز إلى الهاوية ربما يكون هناك ما يمنع من الارتطام بالأرض والموت.
وإدراكًا للخصوصية الفلسطينية، جرى الاتفاق عل التمثيل النسبي الكامل وتشكيل حكومة وحدة بعد الانتخابات ولكن في سياق المحاصصة (أليس أفضل مليون مرة تشكيلها قبل الانتخابات لتوفير أجواء الثقة ومنع المغامرات والمفاجآت)، وهذا لا يكفي، بل لا بد من إدراج القضايا الأخرى، وخصوصًا الاتفاق على إستراتيجية وقيادة موحدة، وعلى المنظمة، والشراكة، وانفصال غزة.
فلا وحدة ولا انتخابات من دون أن تكون هناك منظمة موحدة وسلطة واحدة، أو أن تؤدي حتمًا إلى تحقيق ذلك.
ما يدفعنا إلى قرع ناقوس الخطر أن المحاولة الوحدوية الحميدة الجديدة ابتدأت بالدعوة إلى وحدة ميدانية ومقاومة شعبية ضد المخاطر في ظل استمرار الانقسام، وقلنا لا بأس خطوة إيجابية ستقود إلى غيرها وصولًا إلى إنهاء الانقسام، ولكنها تمخضت عن مجرد مهرجانات وإعلان فوقي لفظي عن تشكيل قيادة موحدة للمقاومة الشعبية، ثم تم الانتقال فجأة إلى الدعوة الأحادية إلى إجراء الانتخابات في محاولة مكشوفة لتأجيل الحسم فيما لا يجب أن يؤجل من دون إجراء الحوار الوطني بين الفصائل وبينها وبين الشعب كما التزمت باجتماع الأمناء العامين، من أجل الاتفاق على الرؤية والأجندة الوطنية في هذه المرحلة.
ويجري الحديث عن قائمة موحدة أو قوائم محددة السقف لحركتي فتح وحماس، ولكن هذا لا ينفع خصوصًا إذا لم يسبقه تغيير النهج، كونه وصفة للفشل جراء الاختلاف الممكن حول النسب والترتيب... إلخ، ولا يجسد جوهر الديمقراطية والانتخابات، وهو الحفاظ على التعددية والتنافس وحرية الاختيار بين خيارات وقوائم متعددة في إطار وطني موحد، ويكرس الانقسام والمحاصصة والاستقطاب الثنائي، ويدل على الخشية من صناديق الاقتراع، والحرص على المحاصصة الفصائلية، خصوصًا الثنائية، وعلى خوض انتخابات مضمونة النتائج .
من يقول إن حل الرزمة الشاملة الذي اقترحته وغيري كثيرون مستحيل التحقيق عليه أن يعرف أن تجاهل أسباب الداء العضال الذي يهدد المريض بالموت لا يعالج بتقديم حبة أسبرين لا تسمن ولا تغني من جوع أو إجراء "عملية الزائدة" لمريض يحتاج إلى عملية رأس أو قلب مفتوح، وما يمنع الوحدة من أسباب داخلية وخارجية سيمنع كذلك انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها تقوي الفلسطينيين؛ ما يتطلب الوعي والإرادة اللازمة للتغلب على العقبات، لا تأجيل الاقتراب منها، بما يؤدي إلى انفجارها لاحقًا في وجهنا.
المطلوب رؤية جديدة وإستراتيجية، وقيادة واحدة، وشراكة حقيقية تحتكم إلى الشعب عبر صناديق الاقتراع كلما ذلك ممكنًا، والتوافق الوطني الكفاحي المتسلح برؤية جديدة عندما يتعذر إجراء الانتخابات، وإرادة صلبة واعية، وبناء وتوحيد كل المؤسسات على هذا الأساس، وإذا كان هذا متعذّرًا إدراكه كله بسرعة، فيجب محاكمة كل خطوة بمدى مساعدتها على تحقيق أقصى الممكن على طريق تحقيق ذلك كله.
لا يمكن أن تكون الانتخابات خطوة إيجابية إذا كانت المدخل وليست نتيجة، والهدف وليست الوسيلة، بل يجب أن تكون ضمن الرزمة الشاملة التي تطبق بالتوازي والتوازن والتزامن، بحيث يخرج الجميع معًا في شراكة كاملة ومنتصرًا من دون غالب ولا مغلوب.
يمكن الشروع في حوار وطني تمثيلي واسع فورًا للداخل والخارج، يضم مختلف القوى والقطاعات، وممثلين عن المرأة والشباب، ويتوّج بمؤتمر وطني يبحث الميثاق الوطني والإستراتيجية الموحدة، وأسس الشراكة، وكيفية بناء مؤسسات منظمة التحرير لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، وتغيير السلطة.