فلسطين المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: شكلت الانتفاضة الثانية حدثاً كبيراً ومؤسساً، في تاريخ الصراع الفلسطيني والعربي مع الاحتلال الإسرائيلي، ومرحلة بهذا الحجم والتراكم بالفعل السياسي والعسكري، في التاريخ الفلسطيني الحديث، بحاجة لدراسة مفصلة لكثير من الأسئلة، وصولاً لقراءة معمقة.
"قُدس الإخبارية" حاورت الباحث في تاريخ المقاومة الفلسطينية، بلال شلش حول محطات مختلفة في الانتفاضة، والنمط والاستراتيجيات التي حكمت الأداء الفلسطيني في مقابل العنف الصهيوني وغيرها من القضايا المهمة:
في البداية، هل كان اندلاع الانتفاضة الثانية متوقعاً في ظل الظروف التي كانت تعيشها القضية الفلسطينية في تلك المرحلة؟ أم كان حدثاً غير متوقعاً خاصة للفلسطينيين؟
النظر في تأريخ البلدان المستعمرة عبر المدى الطويل، وبما فيها فلسطين المستعمرة بريطانيا/ صهيونيًا خلال القرن العشرين، يؤشر إلى أنه مع نهاية كل ثورة/ انتفاضة، يبدأ الإعداد للثورة/ الانتفاضة التالية، وهذا الإعداد يقابله فعل استعماري عنيف مباشر/ غير مباشر، من أجل وضع العراقيل والموانع أمام انطلاقة الموجة الجديدة. وقد لا يكون من صلة عضوية بين الثورات/ الانتفاضات بشكل مباشر، لكن المشروع الاستعماري بفعله اليومي، يجدد الأسباب لمثل ذلك.
في حالة الانتفاضة الثانية، الفعل الاستعماري المضاد لعموم الفلسطينيين، من ألقوا السلاح ومن بقيت أيديهم على الزناد، إن وجد، بقي مستمرًا رغم آمال أوسلو التي بدأت بالانكسار مبكرًا، وبلغ ذروة انكساره في لحظة كامب ديفيد. وبالإضافة لهذا الفعل الدافع الرئيسي أمام أي ثورة/ انتفاضة، وجد عوامل أخرى أسهمت في التأكيد على أولية خيار السلاح والمقاومة لتحصيل بعض حقوق أهل فلسطين، فضلاً عن استقلالهم. لعل أبرزها الانسحاب من جنوب لبنان في أيار/ مايو 2000، وكذلك استمرار المقاومة في داخل فلسطين المحتلة، التي وإن اثخنت، إلا أنها أبقت على ومضات كانت كافية للتذكير بأولية خيار المقاومة المسلحة فلسطينيًا، ويمكن النظر إلى اشتباك عصيرة الشمالية الذي قاده محمود أبو هنود كنموذج على ذلك. عامل إضافي لا يقل أهمية عن العوامل السابقة، كان انكسار مسار أوسلو وقناعة بعض رموزه، وإن تمايزت مآلاتهم، وعلى رأسهم الرئيس عرفات، بضرورة إيلام إسرائيل التي لم تعطهم شيئًا.
الخلاصة أن حدثاً كالانتفاضة الثانية بالتأكيد كان متوقعًا للكثير من الفلسطينيين، وكذلك لعدوهم، لكن حدود هذا الحدث، ومآلاته كانت خارج أي توقع كما تؤشر الكثير من الشواهد.
مصادر إسرائيلية عديدة تحدثت أن جيش الاحتلال كان قد وضع خططاً للتعامل مع انتفاضة فلسطينية محتملة، ما صحة هذه الرواية؟ وهل العنف والإرهاب الشديد الذي واجه به الاحتلال المسيرات الأولى للانتفاضة كان ضمن هذا الاستعداد؟
بكل تأكيد تتوافر مثل هذه الخطط، حتى وإن لم يفتح أرشيف الانتفاضة رسميًا بعد، خلال المرحلة البينية، بين الانتفاضتين، استمرت المقاومة المسلحة بشكل فاعل، وكان لها تأثيرها وصداها المباشر في داخل الأرض المحتلة. لحظة هبة النفق شكلت عاملاً آخر كان سيدفع بالضرورة لإيجاد مثل هذه الخطط. لكن حجم العنف المضاد لهذا الحدث، هل كان من ضمن مخطط وجزء من سياسة عامة حددت معالمها سابقة، ولم تكن متأثرة بالحدث اليومي، هذا ما يحتاج إلى دلائل وثائقية لتأكيده أو نفيه، وإن كانت المؤشرات على الأرض تؤكد وجود قرار صهيوني باستخدام أقصى درجات العنف والإرهاب ضد أهل فلسطين أينما وجدوا، فكان الإسراف في دمهم في جغرافيا فلسطين المحتلة كاملة.
فلسطينياً، هناك نقاش دائم حول من أطلق شرارة الانتفاضة، هل كان للرئيس ياسر عرفات والسلطة الدور الجوهري في تفجيرها؟ أم أن الأحداث اندلعت بشكل عفوي ثم ساهم أبو عمار في تقويتها؟
الحدث الأول، بكل تأكيد لم يكن ضمن مخطط عام سابق، عرفات كما الفصائل الفلسطينية المعارضة، تفاعلت مع الحدث بشكل يومي، وفي كثير من اللحظات لم تقده، ولم تكن قادرة على ذلك. الأحداث كانت تتسارع بوتيرة كبيرة، وكان للإسراف الصهيوني في الدم أثر كبير في تسارع الأحداث الأولى، بالإضافة لوقوع بعض الحوادث المفاجئة كمقتل الجنديين في رام الله، ومن قبل استشهاد محمد الدرة.
في مراحل تالية، كان لموقف عرفات كما لبعض قادة فتح الآخرين، خصوصًا القادة الميدانيين، وكذلك لفصائل المعارضة وقادتها الميدانيين بصماتهم المميزة، التي دفعت إلى تغيير مسار الأحداث باتجاهات غير متوقعة من الجميع.
كيف استفادت فصائل المقاومة التي كانت تعيش مرحلة صعبة قبل الانتفاضة من الأجواء الثورية التي عمت الضفة وقطاع غزة وجزء من الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948؟
الانتفاضة فعليًا شكلت حقنة وريدية لفصائل المعارضة الفلسطينية، وكذلك لأنصار المقاومة المسلحة عمومًا، فخلال المرحلة البينية، جرمت المقاومة المسلحة وقتل واعتقل وعذب الكثير من كوادرها.
الانتفاضة أولاً أنهت كل الأجواء التطبيعية مع الاحتلال، وأعلنت إنكسار مسار أوسلو بشكل جلي، وكذلك مكنت بعد تفكك بنية الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وقرار بعض قيادات السلطة، وتنظيمها الرئيسي فتح، غير المباشر بدعم المقاومة أو غض النظر عن فعلها، أسهم في توفير بيئة خصبة لإعادة بناء كل ما هدم، ومضاعفة قدرات المقاومة المسلحة.
جزء من المناضلين والمقاومين الذين عملوا في انتفاضة الحجارة كان لهم دور في الانتفاضة الثانية، هل غياب مثل هؤلاء القادة والكوادر عن المجتمع الفلسطيني حالياً أحد أسباب الفراغ القيادي الذي نلاحظه في السنوات الأخيرة؟
مثل هذا الكادر موجود، وفلسطين ليست بقعة صغيرة اسمها الضفة الغربية، إن كان الوصف السابق قابلاً للتطبيق على الضفة الغربية، هناك مؤشرات كثيرة تبرز دور الكادر الذي قامت الانتفاضة الثانية على كاهله في مسار المقاومة، حروب غزة ومقاومتها لم تكن ممكنة إلا بوجود مثل هذا الكادر الذي تأسست خبرته وتجربته وتراكمت خلال الانتفاضتين.
وإذا كان هدف السؤال محاولة تفسير واقع الضفة الغربية الآن، فيتوجب النظر لعوامل أخرى.
وجود شخص مثل شارون على رأس حكومة الاحتلال، هل كان له دور مركزي في مسار الأحداث خلال الانتفاضة؟ وما هي الاستراتيجية التي اتبعها في قمع المقاومة الفلسطينية؟
بكل تأكيد لشخصية شارون وحضوره التاريخي في دولة الاحتلال، وفي مؤسستها العسكرية أثر كبير في مسار أحداث الانتفاضة، بالإضافة لأثر صورة الشارون التاريخية لدى الفلسطينيين، قيادة وعلى رأسهم عرفات وشعبًا. ولهذا كان تفاعلهم استثنائيًا مع لحظة اقتحامه للمسجد الأقصى.
شارون قاد الاحتلال خلال الانتفاضة في معارك حاسمة، لم يكن غيره قادرًا على تحقيقها، أسهمت بشكل جوهري في تغيير مسار الأحداث، وفي تشكيل الواقع السياسي الراهن، ولعل غياب القائد الفلسطيني القادر على مواجهة حسم شارون بحسم مقابل، خصوصًا في القطع النهائي مع مسار أوسلو أحد العوامل الرئيسية في عجز الفلسطينيين، عن حصاد بعض ثمار انتفاضتهم.
هل كان الانسحاب من غزة وتفكيك مستوطنات في شمال الضفة، إشارة على اقتناع شارون بأن التوسع في الاستيطان كان له أثمان كبيرة على كيان الاحتلال؟
بكل تأكيد، كل المؤشرات على أرض غزة، كانت تشير إلى أي مستقبل يتجه الاستيطان، فقبل الانسحاب كانت حرب الأنفاق قد بدأت. لكن تفكير شارون في كثير من المحطات كان تفكيرًا استراتيجيًا متجاوزًا للحظة الراهنة، هذا ما عهد عليه في حروبه السابقة مع الفلسطينيين. فمثلاً تتحدث المصادر اليوم على أن خطته الرئيسية من احتلال لبنان عام 1982 كانت متجاوزة، لتوفير الأمن للمحتلين من سكان شمالي فلسطين، وإنما هدفت إلى دفع الفلسطينيين لإقامة كيان بديل في الأردن بعد طردهم من بيروت.
الشكل التنظيمي الذي اتخذته فصائل المقاومة بين "تنظيم مركزي أو خلايا منفصلة" هل كان له دور في تقدم أو تأخر العمل العسكري خلال الانتفاضة؟
تقييم الأداء العسكري الفلسطيني عمومًا يحتاج لدرس تفصيلي لهذا الدور، دور يراعي خصوصيات كل بقعة جغرافية، وكذلك السياق الزماني للفعل العسكري، في كثير من اللحظات خيار تنظيم مركزي/ خلايا عنقودية لم يكن من اختيار الفصائل الفلسطينية المختلفة، وإنما فرض نتيجة للظرف الميداني.
الفصائل الفلسطينية تفاعلت مع الواقع، ومثلما كان هذا التفاعل في كثير من الأحيان خلاقًا، ودافعًا لتطوير أدائها العسكري، كان في أحيان أخرى استسلام للواقع، الذي شكل بعضه الاحتلال، وكان عاملاً مهمًا في تراجع فعلها في بعض المحطات.
في التفكير السياسي الفلسطيني، وهو متنوع بطبيعة الحال، ما هي الأهداف التي كان تطمح هذه الأطراف للوصول لها من خلال الانتفاضة؟ أم أن الأمور كانت تسير في سياق الفعل اليومي وفي جانب منه "ردات الفعل" على جرائم الاحتلال دون تحديد استراتيجية واضحة؟
قناعتي في ضوء انشغالي البحثي الأولي في تاريخ الانتفاضة، خصوصًا في الضفة الغربية، أنه لم يكن لدى أي من الفصائل الفلسطينية الفاعلة في الانتفاضة خطة استراتيجية متعلقة بالانتفاضة، أهدافها، مسارها، حدودها، الثمار المرجوة منها، كيفية الحفاظ على هذه الثمار حال الوصول إليها، هل الانتفاضة محطة من محطات المقاومة يستهلك فيها بعض الجهد ويحفظ الباقي للحظة تالية، أم أنها معركة كبرى يتوجب فيها استغلال كل القدرات.
وأبرز مؤشر على غياب مثل هذه الخطة، مسار الأحداث، وكيفية تفاعل أبناء الفصائل الفلسطينية في المواقع الجغرافية مع الحدث، سواء في لحظاته الأولى، أو في ذروته أو خاتمته.
ما الذي تركته الانتفاضة الثانية على التفكير والوعي العسكري والسياسي لدى كيان الاحتلال؟ وكيف يسعى اليوم للاستفادة من هذه الدروس لإجهاض أي حدث ثوري فلسطيني قد يندلع في المستقبل؟
شكلت الانتفاضة المواجهة العسكرية الأضخم بين الاحتلال وأهل فلسطين على أرضهم المحتلة، ورغم أن سنوات الاستنزاف (1967-1970) شكلت لحظة استثنائية في هذا المسار، إلا أن الاحتلال طور سريعًا آليات حدت من قدرة المقاومة الفلسطينية على الفعل خلال هذه الحرب، فضلا عن التطورات الداخلية التي شهدتها الجبهة الأبرز آنذاك، جبهة الأردن.
انعكاس الانتفاضة وأثره في الفعل العسكري الصهيوني يمكن ملاحظته بشكل قوي في حرب لبنان 2006، وفي لجنة التحقيق التالية للحرب، وكذلك يمكن ملاحظة أثرها وأثر الحروب التالية التي تأسست على الانتفاضة، في خطط قادة جيش الاحتلال المتجددة خلال السنوات السابقة. وكذلك يمكن ملاحظته في تمسك الاحتلال في السلطة الفلسطينية لأسباب أمنية.
على صعيد الاغتيالات، من هي الشخصيات التي كان لاغتيالها من قبل جيش الاحتلال الأثر الأكبر على مسيرة الانتفاضة وفي الواقع السياسي الفلسطيني حالياً؟
عمومًا سعى الاحتلال من اللحظة الأولى لاستباق أي بناء عسكري فلسطيني متين، وكان هدف الاغتيالات الأول شخصيات مركزية في أي بناء عسكري مقبل، فكان اغتيال إبراهيم بني عودة، صلاح الدين دروزة، جمال منصور، إياد الحردان، عمر سعادة وطه العروج، حسين عبيات وغيرهم من الشهداء.
لكن في كثير من اللحظات كانت عمليات الاغتيال وقود وشعلة للمراحل التالية، ولا يمكن في كثير من اللحظات تصور مسار الانتفاضة حال عدم وقوع مثل هذه الاغتيالات، كاغتيال الشهداء الأمين العام للجبهة الشعبية أبو علي مصطفى، واغتيال ثابت ثابت، ورائد الكرمي، وصلاح شحادة، وإسماعيل أبو شنب.
وبالإضافة لعمليات الاغتيال هذه، كانت بعض الاغتيالات لتحقيق أغراض استراتيجية كما يبدو، وبكل تأكيد كان لها أثرها النوعي في مسار وواقع الفلسطينيين التالي، كاغتيال الشهداء ياسر عرفات، أحمد ياسين، عبد العزيز الرنتيسي.