أثبتت الأحداث، أن الموقف الرافض لمشروع التسوية مع الاحتلال الإسرائيلي هو الموقف الوحيد الأصيل، والصائب سياسيّا وأخلاقيّا، وباستثناء المغرمين بـ"إسرائيل"، ممن يتوسّلون أيّ منطق يداري شيئا من قبح غرامهم بها، فلا ينبغي أن تكون صوابية هذا الرفض محلّ نقاش، وإن كنّا لم نزل نصطدم بآراء، من غير المغرمين بـ"إسرائيل"، لا ترى سبيلا للتعامل مع هذا العدوّ إلا بالتقارب معه!
المسافة قد تكون واسعة بين المغرمين بـ"إسرائيل"، وبين من يتوهّمون الواقعية في التقارب معها لتشجيعها على السلام، إلا أنّ التفاهة الواقعية لهذا الوهم تردم المسافة بين الفريقين، لا سيّما أن الرطانة المتلفعّة بالرصانة الزائفة، لا تستند إلى أيّ معطى واقعيّ، وتخلو من الوعي بالتجربة التاريخية، أو إدراك حقائق اللحظة الراهنة. ولا شكّ أنّ الجهل البالغ هذه الدرجة من الغفلة عمّا هو شاخص شديد الظهور، لا ينمّ إلا عن تفاهة متغلغلة، لا بدّ أن تبلغ مدياتها القصوى وصولا إلى درجة الغرام المقزّز بالعدوّ.
بالرغم من أنّ رؤية الرافضين كانت واضحة، بأنّ مشروع التسويّة مع العدوّ لا بدّ وأن ينتهي إلى تكريس هيمنته الإقليمية، وتوسيع نفوذه الدوليّ، وتحويل الفلسطينيين من حركة تحرّر فاعلة، إلى سلطة خاضعة لإكراهات الاحتلال، وقد سبق لي وأشرت إلى رؤى مكتوبة، رأت منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي ما صار مستقبلا نعيشه الآن، إلا أنّ من دعا سابقا للتسوية السلمية مع العدوّ، وجرّب حظّه بما وقّعه من اتفاقيات، كان لا يملك ما بتنا نملكه من خبرة، واندفع بما بدا له في حينه من إرادة دولية، قد تيقنّا اليوم من مآلها الخادم للاحتلال. وهذا هو الفرق الذي يمكن ذكره بين من سلك هذه الطريق ساعة أمل خادع في الماضي، وبين من يدعو للطريق المسلوكة ذاتها جاهلا بهذا التاريخ كلّه، ذاهلا عن هذا الواقع الضخم!
نعاين تفاهتين؛ الأولى هي الدرجة القصوى بالغرام بـ"إسرائيل"، والثانية هي الدعوة للتقارب معها بذريعة أنّ هذا هو السبيل الوحيد المتاح لانتزاع شيء منها، والفرق بينهما في الرطانة، لا في الجوهر
نحن اليوم، إذن، نعاين تفاهتين؛ الأولى هي الدرجة القصوى بالغرام بـ"إسرائيل"، والثانية هي الدعوة للتقارب معها بذريعة أنّ هذا هو السبيل الوحيد المتاح لانتزاع شيء منها، والفرق بينهما في الرطانة، لا في الجوهر، وهو الأمر الذي يثير السؤال عن سرّ هذه التفاهة، التي لا تدع مجالا للاختلاف على وصفها بالتفاهة، حين النظر إلى مسلكيات العشق المقزّز التي تظهرها الدعاية الإماراتية بعد توقيع الأخيرة اتفاقية تطبيع مع العدوّ.
بداهة، إنّ العشق العلني هو ذاته ذلك العشق السرّي، الذي أخذ يتعمّق تجاه "إسرائيل" منذ سنوات. فالجديد في العلنيّة لا في حقيقة الأمر، وإنما في ظهوره على ما كان عليه في السرّ. ويبدو أن طبيعة العلاقات السرّية بلغت حدّا مرعبا من الخضوع المرَضيّ والشاذّ لـ"إسرائيل"، بالتخلّي الكامل عن الكرامة الذاتيّة، والشعور العنيف بالضعة إزاءها.
مرجع هذه الحالة إلى شعور أصيل بالخسّة والدناءة مقابل الأجنبيّ، تكرّس باعتياد الحماية الأجنبية، والاعتماد على الخبرات الأجنبية، ومنح الوظائف العليا والرواتب السخيّة للأجانب حصرا، وكأنّ من أيديهم تنبجس المعجزات، والاعتقاد بأنّ المال مفتاح كلّ معضلة. وإذا كان هذا الشعور يبدأ مع أصغر أجنبيّ تنبني العلاقة معه، فإنّه أبين ما يكون في السياسات العليا، وعلى نحو كاشف عن هشاشة عميقة، كأن يُسابق حاكم عربيّ إلى الوقوف لصيقا بترامب، لالتقاط صورة في مؤتمر قمّة، ثم سينتهي الأمر إلى إيمان حقيقي بأن "إسرائيل" التعبير المثالي عن "شعب الله المختار"، وأنّ قدرتها لا يعجزها شيء، حينئذ يغدو مستوعبا تماما إعلان الغرام بها، والإلحاح عليه بوسائل شتّى، من ابتذال الأطفال، مرورا بالأغنية، والاتكاء على السفهاء للتعزّل بها، وصولا إلى مشاريع تطبيعية غير مفهومة!
يجري التعويض عن الشعور بالضآلة، بالاستقواء على العربي الآخر، أيْ على الشبيه. وتمكن ملاحظة هذا الاستقواء بجعل الموظفين والعاملين العرب في درجة دنيا بالنسبة للموظفين الأجانب، والمنّ على البلاد العربيّة بالمساعدات الماليّة، والتعالي العنصري السخيف، وادعاء أصالة العروبة مقابل "عرب الشمال" و"شتات السلاجقة والرومان".
يجري التعويض عن الشعور بالضآلة، بالاستقواء على العربي الآخر، أيْ على الشبيه. وتمكن ملاحظة هذا الاستقواء بجعل الموظفين والعاملين العرب في درجة دنيا بالنسبة للموظفين الأجانب، والمنّ على البلاد العربيّة بالمساعدات الماليّة، والتعالي العنصري السخيف
ومن نافلة القول، إنّ هذا التعويض بالشعور عن الضآلة يبدأ داخليّا، بتضخم نزعات مناطقيّة وقبليّة إلى الحد المتجاوز لما يمكن تعقّله أو فهمه، ومن مظاهره (أيْ التعويض عن النقص) ادعاء عمق تاريخيّ مثير للسخرية، كأن تنسب دولة عمرها بضع عقود وجودها إلى حضارات لا تُعرف قبل آلاف السنوات. وقد كنت أحسب أن بعض سخفاء المتزلّفين من يصطنع ادعاءات كهذه، حتّى سمعت الحاكم الأوّل في واحدة من بلدان التطبيع، ينسب بلده الجديدة لآلاف من سنوات الحضارة.
يعني ذلك، أن مظاهر التفاهة السارية اليوم، والتي تتسيد الصورة الدعائية والإعلامية لعلاقة بلاد التطبيع مع العدوّ، هي انعكاس لحقيقة الحكم. فالشعور بالضآلة هنا يبدأ من الأعلى، ويتغلغل في الأسفل، وإذا أضيفت إلى ذلك إرادة الحاكم الأكيدة؛ بنفي السياسة عن مجال بلاده العامّ، وتحييد شعبه تماما عن أيّ فاعلية في المجال العامّ، وإفقاره من الوعي السياسي، فلا بدّ، والحال هذه، من إشاعة التفاهة وتكريسها، لإشغال الناس وتجهليهم والحطّ من وعيهم، وهو ما سينعكس بالضرورة في التعبير عن العلاقة بـ"إسرائيل"، ويتمظهر في تحوّل أعقل عقلاء تلك البلاد إلى مهرّجين وهم يتوسّلّون ما أمكن من منطق للدفاع عن سياسات حكوماتهم، إلا أنّ التفاهة لا يمكن أن تدافع عن نفسها إلا بالتفاهة.
التفاهة لا تدافع عن نفسها إلا بالتفاهة، كلمة السرّ في تفسير ما يُلاحظ من سخافة مثقفين وأكاديميين وإعلاميين ومشايخ في اصطفافهم للدفاع عن سياسات التطبيع، وفي تخيّر حكّام بلاد التطبيع مستشارين ومروّجين لدعاياتهم، لا ينقصهم شيء إلا العقل والذوق والصدق والعلم والضمير والأخلاق!