شبكة قدس الإخبارية

من المسؤول: الفلسطينيون أم العرب؟

فلسطين-5
هاني المصري

هناك تحوّل نوعي في الموقف الرسمي العربي كشفه اجتماع الجامعة العربية الأخير، ظهر في رفض عقد اجتماع طارئ لبحث الخطوة الإماراتية، من خلال إسقاط مشروع القرار الفلسطيني الذي طالب برفضها، الأمر الذي يكشف بوضوح أن الخلل والانحراف عن أسس الموقف العربي المشترك لا يقتصر على الإمارات ولا البحرين، وإنما يعكس موقفا لعدد كبير من الدول العربية، ما يجعل انضمام دول أخرى كما يروج ترامب ونتنياهو أمرا مرجحا.

لماذا تدهور الموقف الرسمي العربي إلى هذا الحضيض، وهل المسؤول عن ذلك تهافت الموقف الفلسطيني كما يشيّع البعض، أم أنه يعود إلى عدم وجود مشروع عربي جامع وبلد عربي قائد بعد تساقط الأنظمة العربية المركزية الواحد تلو الآخر، ما أدى إلى الحقبة السعودية وتقدم بلدان صغيرة للعب أدوار أكبر منها بكثير؟

أما تدهور الموقف الرسمي الفلسطيني، الذي بدأ بالاستعداد للدخول في التسوية التفاوضية، وصولا إلى اتفاق أوسلو، فناجم أساسا عن الضغط العربي على القيادة الفلسطينية، خصوصا بعد حرب 1973، لكي تلتحق بقطار التسوية الجارف قبل أن يغادر المحطة، ودعوتها لاستبدال برنامج العودة والتحرير ببرنامج الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة العام 1967.

يتمثل جذر الخلل والحدث المؤسس الذي أدى إلى سلسلة الانهيارات بالموقف العربي في هزيمة حزيران، وما أدت إليه من نتائج كارثية ترتب عليها طرح شعار إزالة آثار العدوان والموافقة على قرار 242، الذي لم يتطرق إلى القضية الفلسطينية، حيث تجاهل جذر الصراع المتمثل في إقامة الكيان الإسرائيلي على حساب الشعب الفلسطيني على 78% من أرض فلسطين، متجاوزا قرار التقسيم 181 الذي تضمن إقامة دولة عربية على 54%، وأعطى الدولة اليهودية 55% من مساحة أرض فلسطين، وقرار 194 الذي تضمن حق اللاجئين في العودة والتعويض .وتواصل الضغط العربي وتكثّف على القيادة الفلسطينية لتقبل قراري مجلس الأمن 242 و338، مع أنهما لا يتعاملان مع القضية الفلسطينية.

بدأ الانحدار في الموقف الفلسطيني، ليس بالقبول بسلطة وطنية على أي شبر يتم تحريره في العام 1974، ولا باعتماد برنامج جوهره إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 67 في العام 1988، فالتدرج والمرحلية في تحقيق الأهداف خبرة متوارثة على مدار التاريخ، حيث موازين القوى تفرض نفسها، وإنما يكمن جذر الخلل في تصور أن ذلك يتم عبر التخلي عن المشروع الوطني واعتماد المفاوضات وتقديم التنازلات المجانية وإبداء حسن السلوك، وعن تصور إمكانية التسوية التفاوضية من دون امتلاك أوراق القوة، التي وحدها تسمح بتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة، على طريق تحقيق كل الأهداف.

وأدى الوقوع في مصيدة التسوية التفاوضية نتيجة قناعة خاطئة بأن الحركة الصهيونية (وتجسيدها إسرائيل) مستعدة لقبول حل وسط تاريخي يقوم على تقاسم الأرض الفلسطينية من دون ربطها بتغيير موازين القوى؛ إلى السير في طريق تقديم التنازلات المتواصلة لإقناع الأعداء بقبول التسوية التفاوضية، وصولا إلى قبول فلسطيني بالقرارين 242 و338، خلال مبادرة السلام التي أقرها المجلس الوطني في العام 1988، من دون حتى ربطهما بالمشروع الوطني الأساسي، ولا حتى بموافقة إسرائيل على القرارات الدولية الأخرى، خصوصا القرارين 181 و194، أي استُبدِل برنامج التحرير والعودة ببرنامج الدولة، وهذا الطريق أدى إلى الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود في اتفاق أوسلو، من دون اعترافها بأي حق من الحقوق الفلسطينية، بما فيها حق إقامة الدولة الفلسطينية، وجعل هذا الحق نفسه محل تفاوض مع إسرائيل.

ما سبق يوضح أن التراجع الرسمي العربي سبق التراجع الرسمي الفلسطيني، وهذا لا يبرر ذاك فالتراجع خاطئ ومدان، والتراجع الفلسطيني خاطئ ومدان أكثر، لأنه يمس بصلب الحقوق والمصلحة الفلسطينية، وبلغت ذروة التراجع في توقيع اتفاق أوسلو.

فالتدهور العربي انتقل من الوقوف العربي الرسمي في عهد جمال عبد الناصر وراء شعار تحرير فلسطين والدفع بتأسيس منظمة التحرير على أساس برنامج التحرير والعودة، مرورا بـ"لاءات الخرطوم" غداة حرب 67، وشعار إزالة آثار العدوان، ومن ثم البحث عن تسوية عربية جماعية عبر مؤتمر دولي مثل مؤتمر جنيف، ومن ثم التسوية الانفرادية المصرية ومحاولة تغطيتها بطرح خطة الحكم الذاتي، إلى أوسلو ومعاهدة السلام الأردنية، ووصولا إلى مبادرة السلام العربية التي مثّلت مرحلة نوعية من الانحدار في الموقف العربي، وتماهى معها الموقف الرسمي الفلسطيني، رغم ما انطوت عليه من تنازلات عربية.

لقد جاءت المبادرة في سياق وبذريعة البحث عن تسوية جماعية متوازنة، مع أن إسرائيل غير مستعدة لها ولا موافقة عليها، ما جعلها مرحلة على طريق التنازل. كما أنها جاءت للتكفير عن الذنب بعد مشاركة 19 سعوديا في أحداث 11 أيلول، حيث فرضت السعودية على الجامعة العربية الاستعداد للاعتراف والتطبيع الكامل مع إسرائيل مقابل انسحابها من الأراضي العربية المحتلة العام 1967، والموافقة على حل عادل متفق عليه لقضية اللاجئين، وما يعنيه ذلك من وضع مصير اللاجئين بيد إسرائيل، من دون أن يكون هناك أي مقابل من إسرائيل، والأمر شديد الدلالة أن يقوم شارون في اليوم التالي لإقرار المبادرة بشن هجوم عسكري على السلطة الفلسطينية، وصولا إلى محاصرة واغتيال ياسر عرفات، تماما مثل شنّ عدوان 1982 ضد منظمة التحرير في لبنان بعد أقل من عام على توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.

لفهم ما يجري في السنوات الأخيرة ومنذ توقيع اتفاق أوسلو، لا بد من رؤية التطورات العاصفة، ومنها الحرب العراقية الإيرانية، واحتلال العراق للكويت، ومن ثم احتلاله، واندلاع ما سمي بالربيع العربي الذي يهدف إلى خلق شرق أوسط جديد، وشن ثلاثة عدوانات عسكرية على قطاع غزة، ومضي الاحتلال في مخططات التهويد والاستيطان والتهجير والضم في الضفة، إضافة إلى تواتر محاولات في القمم العربية، لتغيير وعكس مبادرة السلام العربية، بحيث يتم قلبها ليسبق التطبيع الانسحاب، بحجة أن هذا يمكن أن يقنع ويغري إسرائيل بالسلام، ويغطي على السبب الحقيقي، وهو تغيير الأولويات، وقيام حلف أميركي إسرائيلي عربي ضد إيران، وما حصل على العكس تماما، إذ اتجهت إسرائيل نحو المزيد من التطرف.

تكمن خطورة الخطوتين الإماراتية والبحرينية، وما يتبعهما، في أنهما لم تقلبا مبادرة السلام فقط، بحيث يكون التطبيع والاعتراف قبل الانسحاب، بل جرتا من دون انسحاب، بدليل أنهما لم تشيرا إلى إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان ولا إلى قضية اللاجئين، أو التزام إسرائيل بالدولة الفلسطينية، بل أقصى ما حصل عليه العرب المطبعون تأجيل الضم الذي تم سابقا لأسباب أخرى، إضافة إلى أن هاتين الخطوتين جاءتا في سياق رؤية ترامب التي تمثل تبنّيا أميركيا لشروط وإملاءات اليمين المتطرف الإسرائيلي. وفي الحقيقة، فإن التطبيع والتحالف العربي مع إسرائيل لا يمنعها، بل يسهّل عليها القيام بالضم في الوقت المناسب، على طريق إقامة "إسرائيل الكبرى".

وإذا سبق العرب الفلسطينيين في تقديم التنازلات المجانية، وصولا إلى الاعتراف والتطبيع، فهذا لا يبرر للفلسطينيين السير في نفس الطريق، وعقد اتفاق أوسلو، الذي فتح الباب واسعا للتطبيع العربي، في ظل استمرار التعلّق بأذيال التسوية التفاوضية، رغم أن إسرائيل قتلتها منذ فترة طويلة، واعتمدت سياسة إدارة الصراع وليس حله، إلى أن تغيّر الموقف الأميركي الإسرائيلي في عهد ترامب نتنياهو، واعتمد فرض الحل الإسرائيلي بعد أن تم خلق أمر واقع على الأرض يجعل هذا الحل هو الوحيد المطروح والممكن عمليا.

"السلام مقابل السلام" من دون إنهاء الاحتلال بدلا من "السلام مقابل الأرض" هو الشعار الذي يردده نتنياهو صباح مساء، ويتفاخر بعد الخطوتين الإماراتية والبحرينية بأنه تحقق، لدرجة تأكيده أن خطة الضم على الطاولة حتى قبل أن يجف حبر الاتفاق الثلاثي الأميركي الإسرائيلي الإماراتي في آب الماضي، أي أن التطبيع والاعتراف سيقود عاجلا أم آجلا إلى الموافقة من المطبعين على الحل الإسرائيلي للصراع التاريخي.

تأسيسا على ما سبق، هناك حاجة ملحة متزايدة لغطاء فلسطيني، فهم يدركون أن كل ما حققوه سيبقى مهددا من دون غطاء فلسطيني، لذا سيواصلون سياسة العصا والجزرة لإقناع الشعب الفلسطيني وقيادته بالانضمام للركب، أو العمل على تجاوزه بحل عربي من دون الفلسطينيين، والسعي لاستبدال القيادة الفلسطينية وإيجاد قيادة مستعدة للاستسلام.

إن الرد على هذه المحاولات الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية بحاجة إلى وحدة فلسطينية صلبة، على أساس شراكة حقيقية ورؤية وإستراتيجية جديدة تحدث تغييرا شاملا في النهج والسياسات والأدوات والأشخاص، فلا يكفي التهديد بحل أو انهيار السلطة، ولا بالوحدة والمقاومة الشعبية، بل يجب استكمال طريق التحرر من قيود اتفاق أوسلو وسحب الاعتراف بإسرائيل، وتغيير السلطة، وإعادة بناء وليس ترقيع مؤسسات منظمة التحرير القائمة، وتوفير مقومات استمرار التواجد الشعبي والصمود والمقاومة المثمرة، والتخلص من إستراتيجية البقاء والانتظار وردود الأفعال والرهان على الآخرين وعلى نجاح بايدن أو سقوط نتنياهو، واعتماد إستراتيجية مبادرة قادرة على الاعتراف بالتطورات والحقائق الجديدة، وليس الانفصال عنها، بأفق السعي لتغييرها وليس الخضوع لها.

 

في هذا السياق، ليس المطلوب الانسحاب من الجامعة العربية، كون مثل هذه المواقف تفاقم عزلة فلسطين، وتسهل على الجامعة ككل ودولها المنفردة السير على هذا الطريق بسرعة أكثر، بل يجب رفع شعار استعادة الجامعة العربية المختطفة التي قامت من أجل فلسطين، ويجب أن تعود لفلسطين.

هناك من يخلط الحابل بالنابل، ويقول إن العرب خانوا قضية فلسطين في العام 1948، وحصلت النكبة، ويواصلون خيانتها حتى الآن، وهذا غير صحيح، فالخيانة في 1948 أدت إلى الثورة المصرية وما تلاها من تغيير في الواقع العربي التي أدت إلى تغيير الواقع، ما استدعى شن عدوان 1967 وهزيمة حزيران.

ولقد كانت الانطلاقة الثانية والأكبر للثورة الفلسطينية تمردا على هذه الهزيمة إلى أن تم استيعابها رويدا رويدا منذ ما بعد حرب 1973.

الأمل موجود، وهناك ما يمكن الرهان عليه، ويتمثل أولا وأساسا في الشعب الفلسطيني، واستعداده للصمود ومواصلة النضال على أرض وطنه وفي الشتات، وثانيا، في الأزمات والتناقضات داخل إسرائيل، وما قادت إليه من المزيد من التطرف والتوسعية والعدوانية والعنصرية، وعدم استعدادها للحلول الوسط، فإما كل شيء أو لا شيء.

وهذا الأمر سيجعل الفلسطينيين والعالم ضدها ولو بعد حين، ويجعل حياة المطبعين والحلفاء الجدد أصعب، فإسرائيل كما تدل مسيرتها كلها تأخذ ولا تعطي، وتهيمن ولا تشارك، ولن تحارب كرمال العرب، بل جعلت حلفاءها العرب في بطن الحوت، وستتخلى عنهم، لأن وجود إسرائيل على حدود إيران في الإمارات والبحرين وغيرهما سيجعل دول الخليج هي المرشحة لدفع الثمن الباهظ في أي مواجهة قادمة سياسية أو عسكرية أو اقتصادية، فإسرائيل ليست وحدها الدولة القوية في المنطقة، بل هناك منافسة كبيرة لها من إيران وتركيا، وهناك الصين وروسيا وأوروبا والهند واليابان، والحرب الباردة الصينية الأميركية وجائحة كورونا وتداعياتها السياسية والاقتصادية على النظام العالمي بأسره.

المنطقة والعالم في تغير، وعلينا أن نواصل الصمود ونجري التغيير المطلوب حتى نأخذ مكاننا اللائق في خارطة العالم الجديد.