خطايا الضحية لا تبرر التحالف مع الجلاد. هذا ما يجب ان نتمسك به كفلسطينيين ناقدين لأنفسنا وللقيادات التي افشلت مسيرتنا. هذه المقولة هي البوصلة الطبيعية التي تحدد موقف الآخرين من قضيتنا ومن كل القضايا العدالة ومساندتها. يُقال هذا في خلفية تكرار أطروحة تبرز بشكل ملفت في كل حالة تطبيع او شبه تطبيع عربي مع إسرائيل تقول بأنه ليس من المنطقي لوم العرب على التطبيع لأن الفلسطينيين انفسهم بدأوا مسيرة هذا الفعل المشؤوم من دون انجاز الحد الأدنى من حقوقهم.
-كيف يُلام العرب، وكيف يوجه اللوم اليوم إلى الامارات، في الوقت الذي أسس فيه اتفاق أوسلو لمسيرة الانهيار في جدار التطبيع مع "إسرائيل"؟- هذه المقولة تحتاج إلى توقف مليّ عندها لأنها أصبحت أحد أهم مرتكزات خطاب التطبيع الذي يلهث وراء أي فكرة أو شبه فكرة ليتمسك بها ويسوغ ما يقوم به هذا النظام أو ذاك.
وقبول هذا المنطق يعني تبرير إقامة علاقة صداقة وتحالف مع اللص الذي سطا على بيت وسرقه ما فيه ثم احتله لأن صاحب البيت كان ضعيفا ولم يستطع الدفاع عن بيته. نعم اوسلو كان خطيئة كبرى ارتكبها الفلسطينيون وكثير منا، وانا منهم، كتب في نقده وهجائه ما لم يكتبه الحطيئة في هجاء كل شيء هجاه في حياته. ونعم هناك انقسام فلسطيني مخز ومدمر لنا ولقضيتنا، وكلنا يشتمه يوميا وينتقد القيادات التي تسببت فيه ولا أحد يتردد في ذلك. بيد أن وجود هذه الاختلالات الفلسطينية الكبيرة والأخطاء الفادحة (التي يتواجد مثلها وربما أكثر في الأنظمة اللاهثة وراء التطبيع، لكن لا يجرؤ أحد كشفها أو الحديث عنها)، لا يسوغ ارتماء الأنظمة العربية واحد تلو الآخر على أقدام "إسرائيل".
ابتداءً، ثمة افتراض مُتساذج في هذه المقولة كأن الفلسطينيين قد اقدموا على أوسلو ووقعوا عليها (وهي خطيئة كبرى في نظر كاتب هذه السطور أيا ما كانت ظروفها) وهم في حالِ من العافية السياسية وامتلاك الخيارات المُتعددة، وكأن الدول العربية كانت تقف مُتفرجة عليهم أو حتى داعمة لهم.
اتفاق أوسلو ١٩٩٣ الكارثي، كان الحصاد المرير لميزان قوى دولي وضعف وتفكك عربي استمر عقودًا. خيارات الفلسطينيين كانت اضطرارية (وبائسة)، بينما خيار التطبيع العربي لهذا النظام العربي أو ذاك، أو خيار استقبال نتنياهو في هذه العاصمة العربية أو تلك ليس اضطراريًا، ولا حتميًا.
“خيار التسوية والتطبيع الفلسطيني” نتج في جزء كبير منه عن الضغط العربي الرسمي المباشر وغير المباشر والدفع نحو تسويات ظالمة ومجحفة. وبعيدا عن إعادة سرد تواريخ مطولة فإن ما يهم هنا هو تسليط الضوء على منتج أساسي من منتجات التفكك العربي ظل ينعكس على الفلسطينيين ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهو عامل “الضغط العربي” المُمارس عليهم ليقدموا تنازلات ويقبلوا بمقترح “سلام” هنا، او مشروع تسووي هناك. بدأ هذا الضغط العربي المباشر او غير المباشر بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧، وصدور قرار مجلس الأمن ٢٤٢ الذي كرس وجود "إسرائيل" واحتلالها لفلسطين، واعتبر “النزاع” محصورا في الأجزاء التي احتلتها خلال تلك الحرب.
لم يمر وقت قصير على ذلك القرار حتى اصبح مضمون ذلك القرار بشكل جلي او مُبطن “أساس” الدبلوماسية العربية في دعمها لفلسطين، أي ان تلك الدبلوماسية و”الدعم العربي” صار موجها لتحقيق انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وقطاع غزة (وسيناء والجولان). وتعزز ذلك بعد معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في ١٩٧٩، ثم تواصل في اجلى تعبيراته “الجمعية” في مؤتمر فاس سنة ١٩٨١ الذي شهد طرح مبادرة الملك فهد وهي اول مبادرة قدمت للجامعة العربية تعترف ضمنيا بوجود إسرائيل. في كل مرحلة من مراحل “الدبلوماسية العربية” كانت الأنظار تتجه، تهديدا ووعيدا او اغراءً، نحو منظمة التحرير للقبول بمستوى الهبوط الجديد، والعين الحقيقة معلقة بواشنطن وارضائها.
بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان عام ١٩٨٢ تفاقم الضغط بالتوازي مع ضعف الفلسطينيين، وانتهى الى “اعلان الاستقلال” الفلسطيني الصوري في الجزائر عام ١٩٨٨ الذي مثل عمليا الاستجابة الفلسطينية للمزاج والمناخ الدبلوماسي الضاغط عربيا الذي تخلق بعد كامب ديفيد مصر، ومبادرة الملك فهد. استكملت حلقات التفكك العربي والإضعاف الفلسطيني بعد غزو صدام حسين للكويت، وما تلاه من مدريد واوسلو. وربما أمكن القول، بإيجاز، ان واحدة من ذرى مستويات الهبوط المتلاحق كان قد لخصها المشهد التاريخي الذي رآه الملايين امام الأضواء وعلى مسرح غص بوزراء خارجية من كل دول العالم من ضمنهم أمريكا وروسيا والاتحاد الاوروبي، في مايو ١٩٩٤ في القاهرة، وحسني مبارك يجر ياسر عرفات جرا للتوقيع على ما بدا وكانه وثائق وخرائط لم يتم الاتفاق عليها. لخص ذلك المشهد وما زال علاقة النظام العربي بالقضية الفلسطينية: أنظمة وملوك ورؤساء يتسابقون لتقديم عروض مسرحية لتسوق نفسها عند واشنطن او تل ابيب او الغرب، على حساب حقوق الفلسطينيين.
ليس القصد هنا اعفاء الفلسطينيين وقيادتهم المتمثلة في منظمة التحرير الفلسطينية من المسؤولية، بل انها تتحمل القسط الأكبر إزاء ما آلت اليه الأمور على صعيد قبول التسويات المُجحفة مع إسرائيل. لكن النقطة الأساسية هنا هي التأكيد على ان الأنظمة العربية ظلت منخرطة على قدم المساواة في قضية فلسطين (ومنذ عشرينيات القرن الماضي أساسا)، وهو انخراط تباينت درجات فاعليته تبعا للدولة، او النظام، او القائد المعني، ولكن على العموم كانت المصالح القطرية للأنظمة هي التي تحدد مقدار ودرجة وشكل الانخراط، وليس مصلحة فلسطين او تحريرها. كانت تلك هي القصة يوم تدخل الملوك العرب سنة ١٩٣٦ لإيقاف الاضراب الفلسطيني الكبير، وبعدها تدخل بعضهم لحض الفلسطينيين على قبول قرار التقسيم. وبقيت هي ذات القصة بعد النكبة والى الآن حيث تصدت أنظمة الدول الأهم في المشرق لحمل راية فلسطين، وكل منها أراد من ذلك اما انتزاع موقع قيادي إقليمي، او تعزيز شرعية شعبية داخل بلده بسبب غياب أي شرعيات أخرى، او استهدف الظهور بمظهر الداعم والحريص على فلسطين امام الرأي العام العربي الشعبي المؤيد بوجدانه لفلسطين والفلسطينيين. حدث ذلك تحت شعار ان فلسطين قضية عربية. تخطى ذلك الأنظمة العربية ودخلت ايران وتركيا على الخط ذاته، والكل يزعم التدخل في فلسطين لصالح شعبها وقضيتها. هناك تاريخ مرير لعقود طويلة شهد ركوب دكتاتوريي “المقاومة” ودكتاتوريي “الاعتدال” سفينة القضية ومحاولة التحكم بها والهدف هو تبرير وشرعنة قمعهم لشعوبهم، او شرعنة سياساتهم ومواقفهم. والمثال الاماراتي الأخير الذي يبرر التطبيع مع إسرائيل بمسوغ “إيقاف الضم” على سخافته وانكشافه المفضوح هو آخر تمثلات الاستغلال الوظيفي لفلسطين وقضية فلسطين من قبل هذه الأنظمة.
خلاصة ما يُراد قوله هنا التركيز على عدة نقاط:
الأولى: الأنظمة العربية، ومنها الإمارات اليوم، ليست تحت أي ضغوط هائلة تدفعها للتطبيع مع إسرائيل. تقدم هذه الأنظمة على التطبيع طوعا وهرولة وكل منها له أسبابه وأجنداته التي يغلفها بالدفاع عن فلسطين أو مساعدة الفلسطينيين. ومن المعيب هنا دوام استدعاء خطايا الفلسطينيين والتذرع بها للإيغال في نهج التطبيبع وتسويغه من قبل أي كان.
الثانية: هي التأكيد على أن خطيئة الضحية لا تعني التحالف مع الجلاد. وهنا فإن كل ما ذكر أعلاه، ومرة ثانية، لا يعني إعفاء الفلسطينيين من المسؤولية التاريخية إزاء ما آل اليه مسار التسوية. لكن اخطاءهم وخطاياهم وهم لا يملكون دولة لا تبرر لمن يملك دول ومقدرات وعلاقات دولية ان يلهث وراء علاقة مع محتل استعماري وعنصري واحلالي ومجرم، وكيان مُدان من قبل القانون الدولي وكل من له ضمير في العالم. ليس من المعقول ان ينحدر بعض من اشقائنا العرب الى مستوى يسترذلهم فيه مؤيدون لفلسطين وعدالتها في العالم اجمع، بما فيهم غربيون واسيويون وافارقة وامريكيون ويهود غير صهاينة.
الثالثة: كل نظام عربي يريد أن يطبع مع "إسرائيل" ويحتضن السارق والمجرم لا يمكن منعه من ذلك. لكن لا يحق له استغباء الناس والقول بأنه يقوم بتلك الخطئية لدعم فلسطين أو الفلسطينيين. طعنهم في الظهر ليس له وصف إلا الطعن، وليبحث كل مطبع عن مبررات أخرى تحترم عقول الناس. ليس لهم أن يغيروا التاريخ، ولا ينزعوا عروبة فلسطين عنها، ولا يغيروا حتى الدين ويحشروا -إسرائيل نتنياهو- في القرآن، حتى يعطوا شرعية للغاصب ولفعلتهم. ليقولوا علنا وبالفم الملآن إننا نطبع لنخدم مصلحتنا، ونقطة آخر السطر. مثلاً، في حالة الامارات الراهنة، ليقولوا لنا نريد الاستقواء بـ"إسرائيل" ضد إيران … لكن المهم ليبتعدوا عن فلسطين وتوظيفها.
الرابعة: على حفنة مثقفي التطبيع اينما كانوا، سواء في الامارات اليوم او السعودية او اي دولة اخرى، والذين يستخدمون مقولة “الفلسطينيون طبعوا اولا”، ان يتأملوا فيما يقوم المثقفون الفلسطينيون به من نقد شرس لاوضاعهم وقياداتهم ورئيسهم. هناك نقد وانتقاد يومي من قبل مثقفين واعلاميين وحراكيين وناشطين، لم يوفر الرئيس الفلسطيني، ولا السلطة، ولا حماس، ولا اي فصيل، إلا ونقده واخضعه لكل أنواع المساءلة التي من المفترض ان تكون دور المثقف. اما احتضان السياسة الرسمية ولعب دور البوق والطبل الذي يلعلع ببغائية عمياء ما يقوله الحاكم فهو مسخرة وتفاهة وليست نقاش ولا سجال حقيقي. نفس هذه الأبواق كانت تطبل عندما كان حكامها يقولون أشياء أخرى وربما معارضة للتطبيع. على هؤلاء ان يبلعوا السنتهم قليلاً ويصمتوا ويتأملوا زاوية القمامة التي سوف ينتهون اليها في حكم التاريخ. لكن قلوبنا مع الشريحة الاوسع والاعرض والمعبرة عن شعور ووجدان شعوب الخليج في هذه الحالة، وهي الاصوات المخلصة التي تحاول مواجهة الانهيار، في ظروف الاستبداد والقبضة الأمنية وتكميم الآراء، ما لم تكن آراء بوقية.