خلال سنوات نضالهم السبعين تلقى الفلسطينيون العديد من الطعنات في الظهر، وحاولت إسرائيل جر الدول العربية واحدة تلو الآخر نحو الاعتراف والتطبيع في مؤشر واضح على أنَّ إسرائيل ذاتها تعلم بأنها ليست دولة طبيعية في المنطقة وإنما هي مستعمرة مزروعة بشكل استثنائي في قلب منطقتنا، بينما يحاول بعض المستعربين الترويج بأنها "دولة قائمة لا يمكن أن نعيش دون التعامل معها".
في سنة 1979 أبرم الرئيس أنور السادات اتفاق سلام مع إسرائيل واتخذ القضية الفلسطينية حينها ذريعة لذلك زاعماً بأنه يريد السلام من أجل التوصل إلى حل الدولتين، فشل السادات ومشروعه وتطبيعه، فيما ظل الشعبُ المصري ينظر إلى إسرائيل على أنها دولة احتلال، وظل الشعبُ الفلسطيني يواصل النضال والمقاومة من أجل التحرر الذي لا يأتي عبر موائد المفاوضات.
وفي سنة 1994 وقع الملك حسين اتفاقية وادي عربة للسلام مع إسرائيل، وهي الاتفاقية التي يُطالب كل الأردنيين اليوم بصوت واحد بإلغائها لأن تل أبيب انتهكتها وضربت عرض الحائط بها، وظل الأردنيون ينظرون إلى إسرائيل على أنها قوة احتلال مجرمة، بينما واصل الفلسطينيون نضالهم ومقاومتهم كالعادة بانتفاضة تلو الانتفاضة.. فشل المشروع ومات أصحابه وظل الشعبُ الفلسطيني صامداً مقاوماً يُطالب بالحرية والحق الذي لا يسقطُ بالتقادم.
ستوقع الإمارات اتفاق سلام وتطبيع مع العدو الإسرائيلي الذي هو العدو التاريخي للأمة، وهو الاتفاق الذي أمضت أبوظبي سنواتها الأخيرة في التمهيد له سواء بحملات منظمة عبر شبكات التواصل الاجتماعي أو ببرامج تلفزيونية أو دراما مدروسة تهدف كلها لتجميل صورة الاحتلال القبيحة.. ويعلمُ الصغيرُ قبل الكبير والمجنونُ قبل العاقل أن هذا الاتفاق لن يكون سوى طعنة جديدة في ظهر الشعب الفلسطيني وأنَّ تبريره بأنه "لمصلحة الفلسطينيين ولإلغاء قرار الضم ولبناء الدولتين" ليس سوى هُراء، ولن تستفيد من هذا الاتفاق وهذا التطبيع سوى إسرائيل التي تريد التسلل إلى قلب منطقتنا العربية والخليجية.
كما أن من يريد أن يقدم الدعم للفلسطينيين لوقف قرار الضم وبناء الدولة المستقلة يتوجب أن يكون قد قام بالتنسيق معهم، أي التنسيق والترتيب مع أصحاب المصلحة، إذ كيف يمكن أن نُصدق بأن الدولة التي تستهدف الرئيس الفلسطيني والسلطة وحركتي فتح وحماس على حد سواء تريد الآن وبشكل مفاجئ أن تدعم الفلسطينيين؟!
هذه مسلَّمات من يشكُ فيها فعليه أن يراجع قدراته العقلية، لكنَّ المهم هنا هو أنَّ الشعب الفلسطيني ليس حديث عهد بأشقاءٍ تحالفوا مع عدوه، فلا نجحت مشاريع التسوية الاستسلامية التي كان يسوق لها بعض الحكام العرب في السابق، ولا تبدلت استراتيجية المقاومة، ولا حتى الحصار العربي الإسرائيلي أجبر أياً من الفلسطينيين على التنازل، وهذه حركة حماس في غزة تشهد على ذلك، وقبلها كان الشهيد ياسر عرفات الذي حوصر في مقره برام الله ثلاث سنوات دون أن يتلقى ولو اتصالاً هاتفياً واحداً من زعيم عربي، ومع ذلك فضَّل المقاومة والموت شهيداً على العيش ذليلاً.
ثمة أمران مهمان في الاعلان الاماراتي، الأول أنه يأتي متزامنا مع ذكرى مجزرة "رابعة" التي أطاحت بحكم الاخوان المسلمين، وقيل لنا يومها بأن الرئيس محمد مرسي خاطب بيريز بقوله "العزيز بيريز"، وكان ذلك من جملة التحريض والتجييش ضده، وإذا بنا نرى اليوم من أطاحوا به يتحالفون مع "العزيز نتنياهو"!
أما الأمر الآخر، فهو أن الاتفاق يأتي بعد سنوات من إقامة القيادي الفلسطيني السابق والمطرود من حركة فتح محمد دحلان في أبوظبي، فما هو الدور الذي لعبه الرجل في هندسة هذا الاتفاق وهو الذي أمضى سنوات طويلة يتولى مهمة التنسيق الأمني مع الاحتلال في غزة؟
خلاص القول، هو أن القضية الفلسطينية لن تتأثر بانتكاسة عربية جديدة، ولا بتطبيع جديد مع دولة عربية، ولا باتفاق استسلام واعتراف جديد، ولن تتأثر بعلم إسرائيلي يُرفرف في دولة عربية جديدة، فالفلسطينيون شعب يعود عمره إلى خمسة آلاف عام، وهذه مدينة أريحا التي يسكنها الدكتور صائب عريقات تشهد على ذلك.
الفلسطينيون صامدون وليس أمامهم غير الصمود والتمسك بحقهم، وأغلبُ الظن أنَّ محاولات تطبيع العقل العربي ستبوء بالفشل، فلو كان العرب سيقبلون بإسرائيل صديقة لهم لفعل المصريون ذلك وهم الذين أبرم رئيسهم اتفاقاً مع تل أبيب قبل أربعين عاماً.. ومن يشك في ذلك أيضاً فليسأل الشعبَ الأردنيَ العظيم عن ربع قرنٍ من السلام والتطبيع مع إسرائيل.