كان السطو على الأرض الفلسطينية من موروثات الاستعمار البريطاني، ولذلك يتوجب على بريطانيا الوقوف في وجه ضم إسرائيل لمزيد من الأراضي.
لو كان ثمة فرصة لمراجعة الموروثات والمسؤوليات الاستعمارية، فهذا هو أوانها. فسرقة فلسطين من الفلسطينيين كانت واحدة من تلك الموروثات. في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1917، أصدر وزير الخارجية آرثر جيمز بلفور إعلانه الشهير الذي أيد فيه إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين.
كان اليهود في عام 1917 يشكلون ما نسبته 17 بالمائة من السكان، وكان بقية السكان من العرب. ومع ذلك اعترفت بريطانيا آنذاك بالحقوق الوطنية لأقلية صغيرة وحرمت الأغلبية من ذلك.
في كتابه الذي صدر في عام 2014 عن سيرة وينستون تشيرتشل، وصف بوريس جونسون وعد بلفور بأنه خديعة مارستها الخارجية البريطانية تتسم بالغرابة والتهافت المأساوي – ما يمثل حكماً صائباً ودقة تاريخية يندر أن يصدرا عن قلم جونسون.
لقد مكن وعد بلفور الحركة الصهيونية من الاستيلاء المنتظم على فلسطين، وهي العملية التي وصفها الصهاينة أنفسهم في البداية بالاستعمار الاستيطاني، وهي عملية ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا.
في عام 1917، كان اليهود لا يملكون سوى 2 بالمائة من فلسطين. وفي عام 1947 اقترحت الأمم المتحدة تقسيم الأراضي الواقعة تحت الانتداب البريطاني في فلسطين إلى دولتين، إحداهما عربية والأخرى يهودية. وبموجب تلك الخطة، منح اليهود 55 بالمائة من الأرض رغم أنهم كانوا حتى ذلك الوقت لا يملكون سوى 7 بالمائة منها.
وأثناء حرب عام 1948، تمددت دولة إسرائيل الناشئة حديثاً لتستولي على 78 بالمائة من مساحة فلسطين في عهد الانتداب.
تكرس ذلك الأمر الواقع بعد الحرب من خلال اتفاقات الهدنة التي أبرمتها إسرائيل مع جيرانها العرب، فكانت تلك هي الحدود الوحيدة التي حصلت عليها باعتراف دولي.
وفي شهر يونيو/ حزيران من عام 1967، أتمت إسرائيل ابتلاعها لفلسطين كاملة من خلال احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة.
لو حصل الضم، الذي يحظى بتأييد أغلبية أعضاء الكنيست – أي البرلمان الإسرائيلي، فإنه سيترك للفلسطينيين ما يقرب من 15 بالمائة تقريباً من مساحة فلسطين التاريخية، كما سيكون ذلك بمثابة آخر مسمار يُدق في نعش حل الدولتين الذي ما يزال المجتمع الدولي متمسكاً به.
ثم من خلال توقيعها لاتفاق أوسلو مع إسرائيل في عام 1993، تخلت منظمة التحرير الفلسطينية عن حقها في 78 بالمائة من فلسطين، حيث كانت تأمل بالمقابل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية. إلا أن ذلك لم يتحقق.
كانت هناك عدة أسباب لانهيار عملية أوسلو للسلام، إلا أن أهمها على الإطلاق كان مضي إسرائيل بلا هوادة في توسيع المستوطنات الإسرائيلية المقامة على الأراضي الفلسطينية المحتلة وذلك في انتهاك سافر للقانون الدولي.
تكرس المستوطنات المشروع الاستعماري ما بعد الخط الأخضر، الذي يشكل حدود ما قبل عام 1967. ومن خلال توسيع تلك المستوطنات أثبتت جميع الحكومات الإسرائيلية منذ أوسلو – العمالية منها والليكودية على حد سواء – أنها تهتم بالأرض أكثر مما تهتم بالسلام.
بمجرد أن انتهى من تشكيل حكومة ائتلافية جديدة بعد ثالث انتخابات تجرى خلال سنة واحدة دون التوصل إلى نتيجة حاسمة، أعلن زعيم الليكود بنجامين نتنياهو عن خطته لضم ما يقرب من 30 بالمائة من الضفة الغربية، بما في ذلك الكتل الاستيطانية وغور الأردن.
لو حصل الضم، الذي يحظى بتأييد أغلبية أعضاء الكنيست – أي البرلمان الإسرائيلي، فإنه سيترك للفلسطينيين ما يقرب من 15 بالمائة تقريباً من مساحة فلسطين التاريخية، كما أنه سيكون ذلك بمثابة آخر مسمار يُدق في نعش حل الدولتين الذي ما زال المجتمع الدولي متمسكاً به.
ويحظى الضم كذلك بدعم دونالد ترامب، صديق نتنياهو وأقرب حلفائه السياسيين. وكان ترامب قد كشف النقاب في يناير/ كانون الثاني من عام 2019 عن خطته التي تعرف باسم "صفقة القرن" والتي طال الحديث عنها.
والحقيقة أن تلك ليست خطة سلام بقدر ما هي مباركة أمريكية لكل فقرة تتضمنها قائمة أمنيات نتنياهو ورغباته.
ولم يكن غريباً أن يشيد بها نتنياهو وأزلامه في اليمين الإسرائيلي باعتبارها إعلان (وعد) بلفور الثاني. فهي تمنح إسرائيل رخصة مفتوحة لضم ما يقرب من ثلث أراضي الضفة الغربية دون الاضطرار للدخول في أي مفاوضات مع الفلسطينيين، ناهيك عن تقديم أي تنازلات لهم.
أما بالنسبة للفلسطينيين، فتمنحهم خطة ترامب جائزة تافهة، وهي عبارة عن خمسين مليار دولار تصرف لهم على مدى خمسة أعوام إذا ما قبلوا العيش في دولة تتشكل من مجموعة من الجيوب المحاطة بالمستوطنات والقواعد العسكرية الإسرائيلية دون ترابط بري بينها وبدون القدس الشرقية عاصمة لها، وبلا جيش وبلا حدود مع العالم الخارجي ودون أن تكون متحكمة بمجالها الجوي أو بمواردها الطبيعية.
وسيسمح للفلسطينيين بأن يطلقوا على هذا الكيان اسم دولة فقط فيما لو لبوا قائمة الشروط التي تحددها إسرائيل. إنه، بكل المعايير، مقترح غاية في الجور وغاية في الإذلال.
تنهال على نتنياهو الاحتجاجات ضد الضم، وذلك من الأحزاب السياسية اليسارية في إسرائيل ومن شبكة من المنظمات اليهودية في الشتات، وكذلك من مجموعة تتكون من 220 شخصية من الجنرالات السابقين ورؤساء الأجهزة الأمنية السابقين، الذين يطلقون على أنفسهم اسم "آمرون من أجل أمن إسرائيل".
والحجج الرئيسية التي تعتمدها هذه المجموعات المختلفة تقول إن الضم سيلحق ضرراً بالغاً بأمن إسرائيل، وإنه سيكون صعباً ومكلفاً حراسة وتأمين الحدود الموسعة، وإنه يجازف بإشعال انتفاضة فلسطينية ثالثة، ويشكل تهديداً لمعاهدات السلام مع كل من مصر والأردن، وسيقضي على فرص التطبيع مع بقية العالم العربي، وسيحول إسرائيل "رسمياً" إلى دولة أبارتهايد (فصل عنصري).
ما يلفت النظر في هذه الحجج أنها جميعاً تصدر عن قلق بشأن مصلحة وسمعة إسرائيل وليس بشأن الحقوق الفلسطينية.
ونفس الشيء ينطبق على مجموعة من أبرز الشخصيات اليهودية الذين يعتبرون أنفسهم "صهاينة ملتزمين وموالين بقوة، جهاراً نهاراً، لإسرائيل". ففي خطاب وجهوه إلى سفير إسرائيل في لندن مارك ريغيف، حذروا من أن الضم بشكل أحادي "سوف يشكل تهديداً وجودياً لتقاليد الصهيونية في بريطانيا ولإسرائيل كما نعرفها".
وما القلق على مصلحة الظالم بدلاً من مصلحة المظلوم إلا مجاز آخر، عفى عليه الزمن، من تعابير الخطاب الاستعماري.
انضمت الحكومة البريطانية إلى 10 بلدان من أعضاء الاتحاد الأوروبي لتحذير إسرائيل من مغبة المضي قدماً بعملية الضم.
في نفس الوقت وقع 130 عضواً من أعضاء البرلمان البريطاني على خطاب مفتوح يحثون فيه جونسون على فرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل فيما لو مضت قدماً في هذا الإجراء.
لقد كان أعضاء البرلمان محقين في التأكيد على ضرورة القيام بإجراء ما. فالتعبير الفاتر عن عدم الرضى لم يجد نفعاً في ردع الحكومة الإسرائيلية.
وما من شك في أن الاعتراف بفلسطين كدولة في حدود 1967 هو سبيل آخر يتيح لبريطانيا التكفير عن خطايا بلفور كما يمكنها من أن تكون في الجانب الصواب من التاريخ.
لقد اعترف عدد كبير من البرلمانات في دول أوروبا بفلسطين، ولكن لم تعترف بها سوى حكومة واحدة، وهي حكومة السويد.
رفض جونسون في عام 2017، عندما كان وزيراً للخارجية، دعوة من حزب العمال بمناسبة مرور مائة عام على وعد بلفور بالاعتراف رسمياً بدولة فلسطين، ورد قائلاً بأن "اللحظة لم تكن مواتية بعد لاستخدام تلك الورقة". من المؤكد أن هذه اللحظة قد حانت اليوم.
آفي شليم: الأستاذ بجامعة أوكسفورد
المصدر: الغارديان