سبسطية- خاص قُدس الإخبارية: وأنت تقف على جبل يرتفع حوالي (400-463) متراً عن سطح البحر، تحيط به تلال راسخة، وسهول خصبة، وتطل من خلاله على قرى، ومزارع، وحقول، وبساتين نضرة جميلة بحيث يتشكل أمامك شريط سريع من حضارات مرت من حولك، وغابت لكنها تركت أثراً ليحكي حكايتها. نعم هذه سبسطية العريقة بآثارها والتي تقع إلى الشمال الغربي من نابلس وتبعد عن قلب المدينة مسيرة 15 كم.
تعددت الروايات حول أسباب تسميتها كحال تعدد الحضارات التي مرت عليها، ففي البداية أطلق عليها "السامرة" ويرد سبب ذلك في كتاب العهد القديم؛ حيث بُنيت في الفترة (885 -874 ق.م)، وبانيها هو (عُمري) سادس ملوك بني إسرائيل، حيث قام بشراء الجبل بوزنتين من الفضة، وبنى عليه مدينته " شامر" بمعنى المراقب أو الحارس، وحُولت على يد اليونان لتصبح "السامرة".
ولكن هذه الرواية تلاقي النقد في أن المدينة قد نشأت قبل ذلك الوقت بزمن طويل! ولعل ما يدحض هذه الرواية هو اكتشاف آبار مياه محفورة في الصخر يرجع تاريخها إلى العصور البرونزية المتوسطة والمتأخرة والعصر الحديدي الأول أي قبل تأسيس مدينة "شامر"! والرأي الآخر يقول إن أصل كلمة" السامرة" مأخوذ من "شمرونيم" أي المحافظين، أي سكانها كانوا من السامريين المحافظين على دينهم، وعاداتهم وثقافتهم، و"السامرة" باللغة العبرية تعني "الحارس أو المراقب" وربما ذلك في إشارة لإشرافها على المناطق المجاورة لها، وبالتالي فالرأي الآخر يرى أن منطقة السامرة كانت للسامريين وليست لليهود!
ثم احتل الآشوريون "سبسطية" واستولى لاحقاً عليها الاسكندر الأكبر سنة (332 ق.م)، ثم تعاقبت عليها الخطوب وهُدمت سنة (107 ق.م) على يد يوحنا هركانوس، ثم وقعت تحت يد الحكم الروماني وسميت مدينة "جابينوس" نسبة لحاكمها السوري الروماني (جابينوس).
ولنقل أن فترة ازدهارها وتطورها كانت على يد (هيرودس الآدومي الكبير)، ففي سنة ( 25 ق.م) أعاد بناءها بتصميم جديد؛ لحماية مملكته فهي قريبة على القدس وتشرف على الساحل وعلى قيسارية-التي تأسست لاحقاً- ،حرص (هيرودس) على تحصين المدينة بالمرتبة الثالثة بالبلاد من حيث الحصانة، ثم بنى فيها ملعباً، مسرحاً، ساحة عمومية محاطة بصف من الأعمدة، وشيد فيها شارعاً معمداً بحوالي (600عمود)، وعمّر فيها سوقاً، ومعبداً ، وشق قناة مائية، وحفر المقابر، وبني فيها بنايات عامة وخاصة، مما زاد من أبهة المدينة.
وختم هذه البنايات ببناء هيكل ضخم بأعلى نقطة بالمدينة ليخلد ذكرى أوغسطوس، فغير اسمها لـ "سه بسته" وهي كلمة يونانية بمعنى أوغسطوس باللاتينية أي "السيد المبجّل أو الموقرّ"، وهو ما احتفظت به إلى يومنا هذا... ولم يكتفِ هيرودس بهذا العمران والازدهار، بل أنشأ فيها داراً لصك العملة، ووهبها أخصب الأراضي المجاورة، وسنّ لها دستوراً ونظاماً كان حسناً بشكل عام، إلا أن دوام الحال من المحال ففي القرن الثالث للميلاد أخذت تتأخر، وغدت مدينة صغيرة مهملة!
ولعلك تتساءل لماذا ازدهرت سبسطية بتلك العصور وأخذت هذا الاهتمام؟ فسبسطية مدينة تتمتع بموقع جغرافي مميز، وتتوفر فيها مياه الينابيع، وتربتها الخصبة كانت مناسبة جداً للزراعة.
أصبحت بعد اعتناق الامبراطورية الرومانية للمسيحية مركزاً لأسقفية "وكان"، وبُني فيها كنيستين، ثم جاءها الفتح العربي الإسلامي عام (636م) على يد عمرو بن العاص، وأعطي الأمان لأهلها على أنفسهم وأموالهم مقابل الجزية، واصطبغت منذ ذلك الحين بالصبغة الإسلامية.
ثم أعاد الفرنجة الاستيلاء عليها وأنشأوا كاتدرائية ضخمة فيها؛ إلا أن صلاح الدين الأيوبي عندما فتح القدس جنده لها لطرد الفرنجة منها، وأعاد الصبغة الإسلامية لها، وحول قسم من الكاتدرائية الفرنجية إلى مسجد يُعرف اليوم باسم مسجد "النبي يحيى (عليه السلام)"، وذلك بناءً على المعتقدات المسيحية والإسلامية في أن قبر النبي يحيى (عليه السلام) أو كما يعرف بالمسيحية "يوحنا المعمدان" موجود بسبسطية.
ثم أصبحت جزءاً من نواحي نابلس وذلك عندما انضمت فلسطين للدولة العثمانية في بداية القرن السادس عشر، وظهرت في سجلات الضرائب التابعة للدولة العثمانية وبني فيها عام (1892م) مسجداً عثمانياً على القسم الشرقي من الكاتدرائية، والذي ما زال متواجداً وحاضراً، أما بفترة الانتداب البريطاني لم يطرأ تغير على حالها، بل أخذت بالتراجع وأصبحت قرية متواضعة.
ثم جاء الاحتلال الإسرائيلي والذي أينما حل فإنما يحل معه الوجع والخراب! فأصبحت سبسطية بعد حرب (1967 م) تحت الإدارة الإسرائيلية وتقع ضمن "المنطقة ج" وذلك حسب اتفاقية أوسلو، ولكن أطماع الاحتلال لم تقف عند هذا الحد فهو سعى جاهدا لوضع هذا المَعلم الفلسطيني تحت وصاية ما يسمى بوزارة السياحة الإسرائيلية، وذلك لطمس أي تاريخ لفلسطين، وليصنعوا لأنفسهم تاريخاً على أرضٍ ليسوا لها أهلًا! بل وتجرأ الإسرائيليون على القيام بعدة هجمات استيطانية عليها، ومنعوا إقامة أي عمليات ترميم أو تنظيف لها وذلك في إطار فرض السيطرة عليها.
سبسطية المدينة اللامعة مذ أشرقت شمس الحضارة، لن يطفئ نجمها محتل غاشم أو دعيّ مارق.
مصادر:
- مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، الجزء 2، القسم 2
- محمد حسن شراب، معجم بلدان فلسطين، 2000م.
- عبد الله أبو علم، أسماء ومسميات فلسطينية وعربية وأجنبية، 2012م.
- المركز الفلسطيني للإعلام.
- عبد الهادي هاشم، تاريخ مدينة سبسطية "الموسوعة الفلسطينية /عدد2، 1984م.