حدث هذا صبيحة اليوم الثاني للنكسة. انطلقت أصوات الإنذار في جميع مستوطنات "إسرائيل" وكان بإمكان سكان طولكرم أن يسمعوا أصوات الإنذار ومحركات الطائرات النفاثة الإسرائيلية وهي في طريقها نحو "أسرع انتصار في تاريخ الحروب الحديثة".
أطفال مرعوبون من صافرات الحرب، صرر تحتوي، على عجل، على نكبة أخرى، وخوف آخر.
لا أحد، في هذا اليوم الاستثنائي، لمح استثنائية الظل الآتي من الشرق.
نحو الغرب، حلقت طائرة توبوليڤ TU 16 عراقية، حاملة ستة قنابل FAB 500 يحتوي كل منها على نصف طن من المواد عالية التفجير. مخترقة الرادارات الإسرائيلية، من بيسان شرقا، مرورا بالعمق الفلسطيني، نحو الساحل الغربي لفلسطين.
ببطء، يتحرّك الظلّ الثقيل فوق أشلاء الغيم في صبيحة ذلك اليوم القائظ. ومن بين الغيوم، يسقط الظل على أسطحة منازل بيت ليد وكفر اللبد، جنوبي طولكرم.
الظلّ الجليل، المتقدّم، الذي يمسّد تراب فلسطين، حبّة حبّة، بدءا من الغور، مرورا بطولكرم، نحو نتانيا
الهجرة المعاكسة.. المستقر الأخير للشهداء الستّة، الرائد محمد حسين، النقيب غازي رشيد، النقيب فايق علوان، الملازم صبيح عبد الكريم، الضابط رشيد عدامة، نائب عريف عبد الغني يحيى. هؤلاء الذين أثبتوا أن بإمكان الحدود أن تُفتَح أيضا بالاتجاه الآخر: نحو فلسطين
. طبقا لحسابات الطيران المدني، تقطع الطائرة التجارية المسافة بين قاعدة الحبّانية ومدينة نتانيا افتراضيا، في ساعة و44 دقيقة. هذا يعني أن الشهداء قد انطلقوا من العراق حوالي الساعة الرابعة فجرا. وواصلوا طريقهم عبر الأجواء الأردنية نحو فلسطين.
هكذا تبدأ القصّة المبتورة: الرابعة فجرا. مطار الحبّانية العسكري
::
فوق مستعمرة نتانيا، المقامة على أراضي "أم خالد" الفلسطينية انفتحت مغالق القذائف، فسقطت ثلاثة قنابل FAB500. لم تنفجر القنابل. خلل في تذخيرها على الأرض، في قاعدة الحبانية جعل القنابل غير قابلة للانفجار بعد ارتطامها بالأرض. لم ييأس الرائد محمد حسين وطاقم الطائرة، فاتجهوا بقاذفتهم نحو مرج بن عامر، وهنالك قاموا بقصف قلب مدينة مجدال هعيمق، جنوبي الناصرة، بنيران الرشاشات الثقيلة بعد وقت قصير، عادت الطائرة لتحلّق بالاتجاه الشمالي الشرقي، فوق جنين، وفتحت نار رشاشاتها الخلفية على مهبط مجدو العسكري، فحرثته حرثا، بحسب صفحة ويكيبيديا العبرية . ومن ثم طارت شمالا باتجاه قاعدة رامات داڤيد العسكرية.
على الأرض، كان الضابط إيتان يريف، من الدفاعات الجوية الإسرائيلية يبحلق في المشهد. لاحقا، في شهادة منشورة على موقع سلاح الطيران الإسرائيلي قال يريف:
"استطلعنا لنرى إن كانت هناك طائرات معادية آتية. لم نصدق أن مثل هذه الطائرات ستأتي، لكننا رغم كل شيء نظرنا بحثا عنها. وفجأة، رأيت طائرة لم يبلغني أحد بقدومها من الغرب" … "كانت تلك المرة الأولى التي تواجه فيها بطارية دفاع جوي إسرائيلية طيرانا عربيا معاديا في العمق. كنت أحسب أنني حين أصيبت الطائرة بقذائفنا أنها ستسقط على الفور. واصلنا ضرب المقاتلة بالصواريخ إلى أن بدأ قائدها بضربنا برشّاشها الخلفي، فأصيبت بطاريتنا"
::
بحسب شهادة الرائد أمنون أراد، الضابط في سلاح الجو الإسرائيلي، كانت القاذفة العراقية تحلق على ارتفاع شديد الانخفاض، وتطلق نيران رشاشاتها باتجاه أهدافها.
بعد أن أثخنت الدفاعات الجوّية الإسرائيلية العملاق الطائر بالمقذوفات، أطلقت مقاتلة ميراج إسرائيلية صاروخها الأخير تجاه الطائرة.
وجّه الرائد محمد حسين جبين الطائرة الفذة نحو الأرض
تماما نحو الأرض
نحو فيلق المشاة
::
افتح أبواب جهنم يا نسر
رشاشاتك يا نسر
صواريخك.. حبك للدنيا.. غضبك
ألهب أحزانك...
غربتك المرة في صمت العالم
نارك
العب لعبتك الربانية على عنق مدافعهم
وتأرجح نشوانا.. نشوانا ... نشوانا
مثل سكارى العالم قاطبة بين قذائفهم
نفذ نارك
يا اللّه ننفذ أقدارك
- مظفر النواب -
::
تحولت القاذفة إلى نيزك ضخم مشتعل بالوقود
احترق الطاقم، احترقت التوبوليڤ، احترقت القاعدة، احترق 14 جنديّا اسرائيليا، لحق بهم، في انفجار متأخّر لجسم الطائرة، ضابطان من سلاح الهندسة
النصب التذكاري لقتلى العملية الاستشهادية في قاعدة رامات داڤيد - مكتوب على النصب في قلبي نار فراقكم
صورة للدمار الهائل الذي خلّفته التوبوليڤ العراقية في قاعدة رامات داڤيد العسكرية.