مرة أخرى يعود التنافس بين بعض الدول العربية، الخليجية منها تحديدًا، على كسب ود المؤسسة الحاكمة في دولة الاستعمار الاستيطاني والأبرتهايد، إسرائيل، في فصل جديد من فصول التطبيع الوقح، على الرغم مما يقابله من تشدد إسرائيلي عنصري وتضييع لآخر ما تبقى من القضية الفلسطينية. ويبدو أن هذا التنافس الذي وصل حدًا من الوقاحة والاستهانة بالقضية الفلسطينية التي تمر في أدق وأخطر مراحلها، لم يعد يبالي حتى بورقة التوت التي تعودت هذه الأنظمة على ارتدائها لتغطية عوراتها. مؤخرًا، أرسلت دولة الإمارات العربية المتحدة طائرات خاصة وفاخرة يمتلكها أحد الأمراء إلى المغرب لـ"تخليص" الإسرائيليين العالقين هناك، وكأن كل العالقين الفلسطينيين في بقاع الأرض لا علاقة تجمعهم بحكومة أبو ظبي.
تحاول بعد هذا الفعل تجميل جريمة التطبيع في محاولة لامتطاء عربة القضية الفلسطينية، وتعلن عن إرسال طائرة تجارية تابعة لشركة "الاتحاد" محمّلة بالمساعدات للشعب الفلسطيني إلى مطار اللد، في رحلة هي الأولى من نوعها.
بدورها، وفي خطوة تطبيعية وقحة، قامت الخطوط الجوية القطرية بمنح تذاكر طيران مجانية للطواقم الطبية تقديرًا لجهودها في أزمة كورونا بما في ذلك الإسرائيلية؛ ورد مدير شركة الطيران على سؤال إن كانت الطواقم الطبية الإسرائيلية مشمولة أيضًا في هذه المنح، فأكد أنها مشمولة تحت مبرر أنه لا يوجد "فرق ولا توجد حواجز ولا حدود في المجال الطبي". وكأن غزة المحاصرة منذ 2007 ويزورها السفير القطري بشكل دوري تنعم بكرم الاحتلال العنصري، وكأن المنظومة الصحية في القطاع ليست متهالكة، في وقت لا تسمح به دولة الأبرتهايد بدخول معدات صحية رئيسية لمواجهة جائحة الكورونا. فالقطاع لا يملك إلا 65 سرير عناية مركزة، ولا يعتمد إلا على على الحجر الصحي لكل قادم إليه. وفي أكثر من تصريح أعلنت منظمة الصحة العالمية أن غزة مقبلة على كارثة إنسانية إذا تمت إصابة شخص واحد بفيروس كورونا داخل القطاع، ويبدو أن هذا مسألة وقت. ناهيك عن العنصرية الفجة التي تسود القطاع الصحي الإسرائيلي ضد كل ما هو فلسطيني. لكن ألا تعلم الأنظمة الحاكمة في كل من قطر والإمارات وغيرها ذلك؟
يأتي هذا الانحلال التطبيعي العربي الرسمي في وقت يبدي المجتمع الدولي، المدني منه بالذات، استجابة واسعة لنداء المقاطعة العالمية –بي دي أس– والمعايير التي أقرتها قيادة الحركة الفلسطينية. تلك القيادة التي تمثل الغالبية الساحقة من قطاعات المجتمع المدني المختلفة وقوى الشعب الفلسطيني الحية. وليس من المستجد القول إن النجاحات المتلاحقة الأخيرة للحملة قد جعلت القيادات الاسرائيلية تدق ناقوس الخطر خوفًا من مصير نظام الأبرتهايد العنصري الأبيض في جنوب أفريقيا.
لكن يبدو أن هذه الأنظمة لا تفهم أن القضية الفلسطينية هي قضية من أجل التحرير وتقرير المصير، وليست قضية إحسان وفتات الطعام على الموائد (على الرغم من مساهمة البعض منا في ترسيخ هذا المفهوم). ولأن دولة الأبرتهايد والاستعمار الاستيطاني استوعبت الدرس الجنوب أفريقي ولا تريد للتاريخ أن يكرر نفسه، تعمل على التطبيع مع محيطها العربي من خلال الإدارة الأميركية اليمينية. ولذلك تقوم الأنظمة العربية المطبعة بمحاولة الوصول لقلب الرجل الأبيض الحاكم في البيت البيض من خلال التودد المبالغ به للرجل الأبيض الأشكنازي الحاكم في تل أبيب. المعادلة واضحة: احتفظ بعرشك على حساب حقوق الشعب الفلسطيني.
ولأن "إسرائيل" أصبحت عاجزة، باعتراف قادتها ومراكزها البحثية، عن مواجهة حركة المقاطعة التي باتت تشكل "خطرًا إستراتيجيًا" يصعب على الدولة، ذات الترسانة النووية والجيش الجرار المزود بأسلحة أميركية حديثة من أف-16 الى قنابل الفوسفور، التعامل معها. ولأن المطلوب من الفلسطيني الاستسلام الكامل، كما نصت "صفقة القرن التصفوية". ولأن مشروع ضم الضفة الغربية على وشك الانتهاء، وبالتالي ضرب آخر ما تبقى من "حلم" فلسطيني"، تَوجًب إيجاد قاعدة رسمية عربية تشرع كل هذه الخطوات التي تأتي، كما قالت اللجنة الوطنية للمقاطعة "كتتويج لعقود من العلاقات التطبيعية السرّية والعلنية، والتي شملت العلاقات الاقتصادية والعسكرية والتجارية والرياضية والسياسية".
وعادة ما يقوم المطبعون العرب، بعد التخلص من برقع الحياء، بطرح سؤال "معقد" لكل من يعترض على هذه الخطوات التطبيعية والتي تستهدف النضال الفلسطيني برمته: ماذا يريد الفلسطينيون؟
والحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال تشكل مبرر إطلاق حركة المقاطعة الفلسطينية من خلال النداء الذي وجهته للمجتمع الدولي عام 2005. ما يريده الشعب الفلسطيني من المجتمع الدولي هو الالتزام بمعايير المقاطعة كما وضعتها اللجنة الوطنية للمقاطعة. وهي معايير نحددها نحن المضطهدون، بالضبط كما التزم العالم في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم بمعايير حددها الأفارقة المضطهدون، في مواجهة أعتى النظم العنصرية في جنوب أفريقيا، نظام الأبرتهايد الذي شكل، ولا زال يشكل جريمة ضد الإنسانية.
ولكن هذا ما نريده من المتضامن الأجنبي، أما الأخ العربي فهو شريك في النضال معنا ضد عدو مشترك لا يعرف عن العربي من المغرب إلى قطر إلا أن اسمه "مخمد".
المصدر: عرب 48- حيدر عيد، منشور في 31 مايو