طالعتنا صحيفة "إسرائيل اليوم" العبرية بتسريباتٍ مفادها أن هناك مفاوضاتٍ سريةٍ سعودية-أمريكية تجري لفرض دورٍ سعودي في الأقصى ضمن ترتيبات صفقة القرن، وبأن الأردن رفض بدايةً هذا الدور، لكنه عاد وأبدى استعداداً للقبول به بعد هبة باب الأسباط 2019، زاعمةً بأن دافعه للقبول هو تخوفه من الدور التركي المتعاظم في القدس والمسجد الأقصى، وحاجته إلى التمويل والدعم للوقوف في وجه هذا الدور التركي المتعاظم.
صحيفة "إسرائيل اليوم" التي نشرت هذا الخبر هي الذراع الإعلامي الأقوى والأقرب لبنيامين نتنياهو واليمين الصهيوني عموماً، وهي توزع أعدادها مجاناً وتلقت عام 2014 استثماراً سخياً يزيد عن 50 مليون دولار من شيلدون أديلسون، المليونير الصهيوني الأمريكي المعروف وعراب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس حيث كان الضيف الأبرز في حفل افتتاحها قبل عامين، وأديلسون أحد أكبر الداعمين لمؤسسة "مدينة داوود" المتطرفة، إحدى منظمات الهيكل المتخصصة في الحفريات أسفل سلوان جنوبي المسجد الأقصى المبارك.
إذا ما نظرنا إلى هذه الخلفية فإن هذا التسريب هو عمل سياسي مقصود لإيصال رسائل سياسية أكثر مما هو خبر إعلامي. هذا التسريب يراهن على عقدة مخاوف تاريخية للدولة الأردنية من المنافسة الإقليمية على دورها في المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، ففي العام 1980، وضمن الرد على القرار الصهيوني اعتبار القدس عاصمة أبدية له، أبلغت السعودية اليونيسكو باستعدادها لتوفير 50 مليون دولار لليونيسكو لإعادة إعمار البلدة القديمة للقدس والمسجد الأقصى المبارك، مما حدى بالأردن إلى تقديم ملف لإدراج البلدة القديمة للقدس في لائحة التراث الإنساني العالمي في اليونيسكو كموقع أردني، وقد سجلت بالفعل عام 1981، ثم أدرجت على قائمة المواقع التراثية المهددة بالخطر عام 1982. لقد كانت حماية الدور الأردني ممثلاً بالأوقاف الإسلامية في القدس دافعاً أساسياً لهذا التحرك، والكيان الصهيوني يدرك هذه الوقائع التاريخية جيداً كما يبدو.
وفي عام 1994 كان التخوف من الوصول إلى اتفاقٍ نهائي على القدس يستثني الأردن في المفاوضات الثنائية بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية دافعاً أساسياً للتسريع بتوقيع اتفاقية وادي عربة، وقد أفصح هذا التخوف عن نفسه في نص البند الثاني من المادة التاسعة من الاتفاقية التي تتناول المقدسات والأماكن ذات الأهمية التاريخية، إذ يقول هذا البند: "في هذا الشأن، وفقاً لإعلان واشنطن، فإن إسرائيل تحترم الدور الخاص الحالي للمملكة الأردنية الهاشمية في المقدسات الإسلامية في القدس، وعندما تحصل مفاوضات الحل النهائي فإن إسرائيل ستعطي أولوية عالية للدور التاريخي الأردني في تلك المقدسات"، وقد حول هذا النص الكيان الصهيوني إلى ضامنٍ للدور الأردني أمام هذا التخوف، وقد حظي بكثير من النقد في حينه.
هذه التسريبات اليوم تأتي لتعيد الكرة، لتقول للأردن إن السعودية معها الولايات المتحدة تدعمها للحصول على دور في القدس، والفلسطينيون –والمقصود ضمناً هنا حركة حماس- معهم الدور التركي ليدعمهم، أما أنتم فليس لكم إلا نحن لنضمن دوركم؛ والهدف هنا دفع الأردن إلى مزيد من التنسيق مع الصهاينة في شأن الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس باعتباره الطريق الوحيد للحفاظ على دوره، فيما الخطر الوجودي الإحلالي على الأقصى والمقدسات ليس إلا الاحتلال الصهيوني ذاته.
طبعاً يلعب هذا التسريب على أوتارٍ تاريخية أبعد، فالدولة الأردنية هي وريثة حلم المملكة الهاشمية والثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية في نهاية عهدها وورثتها اليوم هي الجمهورية التركية ككيان سياسي؛ وقد انطلقت الثورة العربية الكبرى من الحجاز، فيما الدولة السعودية تعتبر ضم الحجاز إلى أراضيها التتويج النهائي للمملكة الذي استكمل تأسيسها؛ وحياكة الخبر ليدور حول الدول الثلاث تحديداً هي استثمار في معرفة استشراقية تاريخية حول نشأة هذه الدول وإمكانية استفزاز عقدها التاريخية، وهو ليس عملاً إخبارياً بأي حال.
هل هناك أساس موضوعي للتسريب؟ بالتأكيد؛ فأي بروبوغندا إعلامية لا تختلق الحوادث من الصفر بل تبني على حوادث قائمة لتوظفها، وقد حاولت السعودية بالفعل تشكيل وفدٍ من داخل القدس لزيارتها لعله يتحول إلى هيئة تمثل النفوذ السعودي في الأشهر الأولى من عام 2018، ولم يتشكل الوفد ولم يخرج نتيجة وعيٍ مقدسي لخطورة استبدال الدور الأردني الذي تأسس بحكم الوقائع التاريخية ويحظى بمشروعية دولية بأي دورٍ آخر، سواء كان سعودياً أو غيره، لأن هذا سيعطي الاحتلال فرصة ذهبية للدخول طرفاً مباشراً في شؤون المقدسات؛ كما أن الأردن وضع ضغوطاً سياسية وأمنية لمنع تشكيل الوفد وخروجه.
المحاولة الثانية جاءت بعد عام، في شهر 2-2019 تحديداً حين زار وفد مقدسي برئاسة الدكتور سري نسيبة الرئيس السابق لجامعة القدس دولة الإمارات، ليشكل مجلس القدس للتطوير والتنمية الاقتصادية، وجرى الاتفاق هناك على ضخ عشرات ملايين الدولارات كانت ستؤدي إلى الاستحواذ على المجتمع المدني المقدسي كاملاً، لكن ما أحبط تلك المحاولة كان التدخل الأمني للسلطة الفلسطينية إذ منعت مرور التحويلات البنكية، خوفاً من توسع نفوذ محمد دحلان، وبات المجلس يواجه مشكلة حتى في دفع إيجار مقره الكبير الذي استأجره بداية.
التوقيت له دلالة مهمة، فهذا التسريب الصهيوني المقصود يأتي بعد يومٍ واحدٍ فقط من فتح الأقصى وفق اتفاقية بين الخارجية الأردنية والخارجية الصهيونية، تناولت ترتيبات إغلاقه واستدامتها إلى ما بعد العيد، وصولاً إلى فتحه بعيداً عن الزخم الشعبي وبما يمنع تسجيل مواجهة أو فتحٍ شعبي حاشد. ويبدو أن حكومة الاحتلال راضية تمام الرضا عن هذا التوجه المستجد الذي يضفي مشروعية على دورها في الأقصى، وهي تسعى إلى دفع الدولة الأردنية للانخراط في تنسيق أكبر حول الأقصى، مستخدمة تخويفه من "منافسيه" الإقليميين، ومقدمة نفسها كـ "ضامن".
والحقيقة أن الدور الأردني في الأقصى إذا انزلق إلى التنسيق السياسي والتسويات على المقدّس فسيفقد مع الزمن مشروعيته الشعبية، وسيمسي تهميشه بل وإلغاؤه أمراً سهلاً على الصهاينة، وهو ما يفرض التحذير من خطورة هذا التوجه الذي يريد الاحتلال المضي فيه أكثر، فالحفاظ على الدور الأردني في القدس يتطلب أولاً الحفاظ على رشد ممارسته بما يحفظ مشروعيته الشعبية ويبقيه محمياً بها وهذه مهمة رسمية أردنية، ويتطلب ثانياً دعمه وإسناده مقدسياً وعربياً وإسلامياً في مواجهة الخطر الوجودي.
أما إذا ما استجاب للإغراءات والضغوط الصهيونية والأمريكية بما يمضي به نحو مزيد من التسوية السياسية مع المحتل على المقدسات، فإن هذا سيأخذ الجميع نحو المجهول، وهذا ما ينبغي التيقظ له منذ الآن.