وسط كل المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، سواء التي سجلت في كتب التاريخ أم تلك التي لم يستطع أحد رصدها، وسط كل تلك القذائف والرصاصات، ماذا يعني أن تموت وحيدا وعطشانا؟ من هذا الذي يمكنه أن يصف أو يتخيل على الأقل حادثة مثل هذه، ومن يهتم أصلا بحادثة من هذا النوع فيما الموت والتشريد يلاحق حتى الظلال؟ لكن هذا ما جرى لنبيهة الهنيدي.
نبيهة التي كانت تحظى بشعبية فريدة من نوعها، ومكانة مرموقة بين نساء اللد، يخصصن لها مقعدا في "صدر المجلس"، كي تروي لهنّ الأشعار التي كانت تحفظ بعضها، وترتجل بعضها الآخر، رغم أنها لم تتعلم في المدارس، ولم "تكن تفك الحرف".
نبيهة، مدللة والدها، الذي يعد من أغنياء مدينة اللد قبل النكبة، تزوجت من "ابن الحسب والنسب" داوود الترتير الذي كان من الملاكين أيضا، لديه أراض وبيارات، عاشت حياة رغيدة بمقاييس تلك الحقبة، لكن زوجها توفي في سن مبكرة، وترك لها مسؤولية تربية أربعة أيتام "ثلاثة أولاد وفتاة"، فحملت مهمة تعليمهم على عاتقها، متخلية عن كل شيء يتعلق بشخصها، معتبرة أن الأولاد ومستقبلهم مهمتها السامية في الحياة.
لكن بدأت النكبة تفرض مسارا آخر للحياة، فدمرت العصابات الصهيونية البلاد، وشردت أفراد العائلة، وماتت نبيهة وحيدة عطشى داخل أحد مساجد اللد، ودفنت في مكان مجهول حتى اليوم، ماتت عطشى وهي التي ركضت بين الحقول وآبار المياه صغيرة، ماتت عطشى وهي لم تترك طيرا أو قطا لم تسقه من يديها، ماتت عطشى لتكون رمزا للتفاصيل الصغيرة التي تجاهلها مؤرخو النكبة.
منذ سنوات، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صورة لنصب تذكاري كتب عليه: "ماء سبيل عن روح جدتي نبيهة الهنيدي التي قضت وحيدة عطشى إثر طردنا من اللد في 13 تموز 1948"، هذه الصورة هزت مشاعر الناس، فصاروا يتداولونها كلما حلت ذكرى النكبة، لكن تفاصيل القصة التي تقع وراء هذا النصب، ظلت مجهولة للكثيرين.
قبل عدة أسابيع، بدأنا البحث عن مكان هذا النصب وصاحبه، وتواصلنا مع العديد من أفراد العائلة الموزعين في الكويت، والسعودية، والولايات المتحدة الأميركية، لكنهم لم يعرفوا القصة، ومنهم من رجح أن تكون الصورة التقطت في الأردن، وآخرون قالوا ربما في اللد، ومنهم من أخبرنا أنه لا يعرف عنها أكثر مما كتب على النصب التذكاري، كانت نبيهة مجهولة إلى تلك اللحظة، كما كانت قصة موتها الغريبة.
واصلنا البحث، قرأنا عشرات التعليقات المرافقة للصورة المنشورة على أكثر من موقع، أحدها كان على صفحة "مدينة اللد"، لكن القائمين عليها يقيمون في الإمارات والأردن ولا يعرفون عنها شيئا، ثم عرضوا علينا المساعدة من خلال إعادة نشرها، بينما نقوم بمتابعة التعليقات لعل أحد أفراد العائلة يرى الصورة مصادفة.
واستمر البحث لحين عثرنا مصادفة على تعليق يرجع تاريخه إلى ثلاث سنوات، على صورة نشرها أحد النشطاء للنصب، مضمونه أنه مبني في بلدة سردا شمال مدينة رام الله، في "قصر الترتير"، وبسؤالنا لأحد أبناء البلدة، أكد صحة ذلك، لكن من بناه توفي عام 2015، وأولاده هاجروا إلى الولايات المتحدة، والمنزل مقفل منذ ذلك الوقت.
تواصلت محاولات البحث، وعدنا لمتابعة تعليقات صفحة مدينة اللد، لنجد أن واحدا منها يعود لحفيدتها محاسن الترتير، تترحم فيه على جدتها التي كان والدها يروي لها عنها قصصا كثيرة، كما تترحم على ابن عمها الذي بنى النصب التذكاري. تحدثنا مع محاسن (74 عامًا) المقيمة في العاصمة الأردنية عمان، والتي هُجرت هي وعائلتها من اللد على يد العصابات الصهيونية، ولم تكن حينها تتجاوز من العمر عامين.
تحدثت محاسن عن جدتها بكثير من الأسى، وكانت تخرج بين كل جملة وأخرى آهة بعمق المأساة، وهي تعيد ما رواه لها والدها أيوب الذي خرج قسرًا هو وإخوته من اللد، حاملاً إياها هي وإخوتها وأبناء أعمامها نحو بلدة نعلين غرب مدينة رام الله، خوفًا من بطش العصابات الصهيونية.
في هذه الأثناء بقيت نبيهة التي كانت في الـ60 من عمرها في المنزل، لأن أولادها كانوا مضطرين للسير مشيًا على الأقدام عشرات الكيلو مترات، فيما كانت نبيهة مقعدة وتحتاج من يحملها طوال الطريق.
تقول محاسن: "لشدة المأساة كانت ابنة عمي تحمل طفلتها ومن التعب والإنهاك والعطش، تركتها أسفل شجرة لكن أبي عاد إليها وحملها".
بعد رحلة طويلة من التعب والإعياء، وصل الأب وأشقاؤه إلى نعلين، وبعد أن أمنوا عائلاتهم عند أحد معارفهم، عادوا إلى اللد لإحضار والدتهم، لكنهم لم يستطيعوا الوصول إليها، فقد كانت العصابات الصهيونية تترصد للناس وتطلق النار عليهم، وتقصف البيوت، وتدمر كل ما تراه في طريقها، تكررت محاولاتهم مرات عدة وجميعها باءت بالفشل.
لم تجد نبيهة من يرعاها، فهي لم تكن تستطيع القيام بأي عمل دون مساعدة، إلى أن عثر عليها خال والدة محاسن واسمه "الحاج إبراهيم"، الذي تطوع لإغاثة الناس، ونقلها مع عدد من كبار السن إلى أحد مساجد اللد، رعاهم وأشرف عليهم وأطعمهم وأسقاهم، لكن وكما روى والد محاسن لها، فإن العصابات الصهيونية فرضت حظر التجوال على المدينة، واعتقلت شبابها ورجالها، وحالت دون وصول الحاج إبراهيم إليها، وتركت نبيهة تواجه مصيرها وحيدة.
في الـ13 من تموز/يوليو عام 1948.. ماتت نبيهة في المسجد وحدها، ماتت من شدة الجوع والعطش، ماتت وحيدة، دون أن يكون معها أحد، لم يكن هناك غير عدد من المتطوعين المجهولين الذين قاموا بدفنها في مكان ما زال مجهولا إلى اليوم.
تذكر محاسن ما أخبرها به والدها عندما كبرت، وكيف تجادل مع عمها، لأنه كان يريد تسميتها على اسم جدتها، لكن العرف والتقاليد المتبعة يحتمان أن يكون الاسم من نصيب الابن البكر، فأسماها والدها محاسن لكنه كان يناديها "يما" كونها تشبه جدتها إلى حد كبير، وتكتب الأشعار مثلها.
نبيهة لم تكن مقعدة وحسب، بل فاقدة للبصر أيضا، حدث ذلك قبل النكبة، حيث عانت من ألم في عينيها، فأحضر لها أحد أقربائها قطرة من الطبيب، وما أن استخدمتها حتى فقدت بصرها بعدما تبين أن القطرة "يود".
نبيهة حالة من الحالات التي استطاع الأحفاد توثيق قصتها، لكنها رمز ودليل على مئات آلاف القصص المشابهة التي لم يوثقها أحد، والتي تؤكد أن تحت هذه الأرض، ملايين الشواهد على أبشع الجرائم التي ارتكبت بحق شعب مدني أعزل.