فلسطين المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: شكلت حرب النكبة حدثاً مركزياً مؤسساً في تاريخ الشعب الفلسطيني، وتركت أثارها على حياته السياسية والعسكرية والاجتماعية حتى اللحظة.
في ذكرى النكبة أجرت "قُدس الإخبارية" حواراً مع الباحث بتاريخ المقاومة الفلسطينية المسلحة، بلال شلش حول أحداث حرب النكبة والواقع العسكري للمقاومة الفلسطينية والعربية في يافا تحديداً.
بدايةً، لو أردنا أن نعطي وصفاً مختصراً لمعارك النكبة ماذا يمكن أن نقول؟
حرب طويلة، بمعارك متمايزة، شكلت حلقة جديدة من المواجهة بين أهالي فلسطين المحتلة، والمشروع الاستعماري، كانت محصلتها هزيمة أهل فلسطين في معارك وانتصارهم في أخرى، وانتهت بفقدانهم لجل أرضهم وحفظهم لبقيتها بالدم.
برأيك، ما هي العوامل التي ساهمت بانتصار العصابات الصهيونية في الحرب وتهجير مئات آلاف الفلسطينيين؟
العوامل التي حسمت معارك الحرب مركبة، ولا أظن أنه يمكن تعميم ظروف معركة في منطقة ما في فترة زمنية ما على بقية المعارك، فالحرب شهدت ظروفًا مختلفة ومتغيرة بشكل يومي في في كثير من الأحيان، كان لها أثر المركزي في تقرير مصير المعارك. لكن هذا لا يمنع من وجود عوامل مشتركة، تراكمت بتراكم سني المشروع الاستعماري في فلسطين بعد احتلال خلال سنوات 1917-1918، وأبرز هذه العوامل البناء المتراكم لمصادر القوة الصهيونية، التي لم تكن مقتصرة على البناء العسكري، برعاية استعمارية، شهدت فتورًا محدودًا قبل اندلاع حرب 1947-1949 بقليل. مقابل الهدم الممنهج لمصادر القوة العربية، التي لم تكن مقتصرة على عرب فلسطين، وإنما شملت جل البلاد العربية المستعمرة.
أين أخفق المقاتلون العرب والفلسطينيين في الحرب؟ وما هي محطات النجاح التي كان من الممكن أن تقلب المعادلة؟
شخصيًا لا أحب تقييم الأداء العسكري العربي والصهيوني أيضًا من دون النظر في معارك محددة، لظروف كل معركة المختلفة، لكن قد يكون الإخفاق العربي الأبرز، فلسطينيًا وعربيًا، هو غياب "الجدوى" في كثير من الأحيان، وهذا مرتبط في جزء أساسي منه في مشكلة القيادة العسكرية على الجانب العربي، فلم يكن يوجد في كثير من الأحيان الرائد الذي تجتمع الجهود حوله، سواء كان هذا الرائد شخصًا، كعبد القادر الحسيني مثلاً، أو بهجت أبو غربية في معارك القدس الأخيرة، أو بنية عسكرية صلبة.
الإخفاق الثاني مرتبط بقرارات كان لها تأثير استراتيجي في المعارك (كمن هو القائد للمجهود الحربي، القرارات المتعلقة بدور الهيئة العربية العليا في الحرب، ودور الفلسطينيين عمومًا، تعيين فوزي القاوقجي كقائد لجيش الإنقاذ الذي أوكلت إليه قيادة الجبهة الشمالية، ثم توسيع صلاحيات القاوقجي بعد استشهاد الحسيني، قرار الدفاع والهجوم)، خصوصًا في مرحلة الحرب الأولى (كانون الأول/ ديسمبر 1947- أيار/ مايو 1948) التي كانت برأيي أبرز وأهم مراحل الحرب، خصوصًا على عرب فلسطين، الذين كانوا رأس حربة هذه المرحلة بلا منازع. ومصدر هذا الإخفاق في جزء أساسي منه فقدان التجربة السابقة، فالحرب كانت المعركة العربية الأوسع بعد معارك الحرب العالمية الأولى، وكذلك انعكاس "الشخصنة" و"الخلافات" العربية البينية على القيادة العسكرية العربية. ورغم إدراك الأثر السلبي لبعض هذه القرارات في لحظة الحرب، إلا أنه لم يكن من مساعٍ جدية لتجاوزها.
أما فيما يتعلق في محطات النجاح فلعل أبرز محطات النجاح في مرحلة الحرب الأولى، أولاً إعادة بعث القوة العسكرية الفلسطينية التي وئدت مع نهاية ثورة 1936-1939 بشكل فعال في كثير من المناطق، وثانيًا حرب المواصلات، خصوصًا في المنطقة الوسطى التي أثخنت في العدو وأسهمت بشكل جذري في حفظ بقية فلسطين مع نهاية الحرب، بالإضافة للعمليات ذات البعد الاستراتيجي التي كان من الممكن أن تحدث تغييرات جوهرية في مصير الحرب كعملية استهداف مقر الوكالة اليهودية الذي كان من الممكن أن يؤدي إلى قتل رأس المشروع الصهيوني في فلسطين، وعقله الحربي الأول دافيد بن غوريون. كما أن الإخفاق الصهيوني الجزئي أو التام، بفعل القتال العربي البطولي، في عمليات عسكرية نوعية كعملية "نحشون"، ثم عملية "يبوسي" التي استهدفت فعليًا السيطرة على فلسطين الوسطى لمنع دخول القوات العربية إليها قبل 15 أيار/ مايو 1948، وكذلك العمليات العسكرية المتتابعة التي استهدفت منطقة اللطرون والتي لو نجحت لغيرت مصير بقية فلسطين.
في كتابك حول حامية يافا، نرى مقاومة يومية وحققت نجاحات، لماذا سقطت المدينة في النهاية؟
خلاصتي عن معارك يافا، أن حامية المدينة في مجمل حربها الطويلة مع جوارها الصهيوني، والتي امتدت خلال شهور الحرب من لحظتها الأولى مطلع كانون الأول/ ديسمبر 1947 ولغاية نهاية نيسان/ أبريل 1948، نجحت في تحقيق انتصارات عسكرية تامة، أو بالحد الأدنى أفشلت أهداف العمليات العسكرية الصهيونية المركزية التي استهدفت. بدءًا من اللحظة الأولى ولغاية اللحظة الأخيرة بعد فشل العملية العسكرية الصهيونية "خيمتس" في تحقيق أهدافها داخل المدينة، بخسارتها لمعركة تل الريش أواخر نيسان/ أبريل 1948.
لكن هذه الانتصارات العسكرية، أو الصمود لم يترجم في المحصلة العامة لانتصار تام في المدينة يحفظها من السقوط. وهذا مؤشر إلى أن بعض معارك حرب 1947-1949 قد تكون حسمت عسكريًا لصالح العرب إلا أنها لم تنعكس حفظًا للأرض، فالأداء العسكري على الأرض لم يكن هو العامل الوحيد في الوصول إلى هذه المحصلة.
أما عن سبب سقوط المدينة، فالأمر مرتبط بعوامل مركبة، يصعب حصرها هنا، لكن أبرزها تفكك حامية المدينة رغم انتصارها في معركتها الأخيرة، جزئيًا على الأقل، وذلك لأسباب مركبة أيضًا، وثانيها غياب "الجدوى" خصوصًا بعد نجاح الصهاينة في السيطرة على ريف يافا وإطباق الحصار عليها، ولم تجد المدينة الرائد الذي يحدد جدوى استمرار المقاومة، وضرورة إعادة تثبيت أركان الحامية. وثالثها الهزائم المتتالية التي شهدتها مدن فلسطين المجاورة، خصوصًا سقوط حيفا المدوي.
ما هي الخطوات التي اتخذتها العصابات الصهيونية قبل الحرب في يافا تحديداً؟ بالمقابل ما هي الخطوات العربية والفلسطينية للدفاع عن المدينة؟
أولاً أود الإشارة إلى أنه رغم دور "الإيتسل" و"ليحي" وحضورهما في معارك يافا، خصوصًا حضور "الإيتسل" في معركتها الأخيرة، وحضور "ليحي" الدموي باستهدافها لمقر اللجنة القومية العربية في 4 كانون الأول/ يناير 1948، إلا أن هذا الحضور بقي هامشيًا بالمقارنة مع حضور ودور "الهاغاناه".
وفي المجمل فإن الخطوات المتخذة من العرب والصهاينة كان متقاطعًا، مع فارق لصالح الصهاينة، وهو فارق أخذ بالاتساع بشكل يوميًا رغم الجهود العربية المتتابعة لتقليصه، وهو أيضًا الفارق الذي تضاعف بعد أيار/ مايو 1948 وانعكس في مجمل الأداء العسكري الصهيوني في بقية المعارك.
كانت "الهاغاناه" قبل الحرب في منطقة يافا وجوارها الصهيوني تعاني من أثار الصراعات البينية، بين بلدية "تل أبيب" وقيادة "الهاغاناه"، وكذلك بين "الهاغاناه" والمنظمات الصهيونية الأخرى، وهذا بالتأكيد انعكس على بنائها العسكري، إلا أن سنة 1947 شهدت فارقًا نوعيًا لصالح تطوير قدرات "الهاغاناه" في المدينة، ووضع قائد الهاغاناه في منطقة "تل أبيب" يهوشواع غلوبرمان (قتل في كانون الأول/ ديسمبر 1947) خطة لتوزيع جبهات القتال في المدينة. لكن هذه القدرات النوعية على الجانب الصهيوني توزعت مع بداية الحرب على مناطق فلسطين المختلفة، إذ تحولت الهاغاناه في منطقة "تل أبيب" مركز الكثافة السكانية الصهيونية الأبرز في فلسطين إلى خزان دعم وإسناد لمعظم مناطق التواجد الصهيوني في فلسطين، وانعكس هذا على نوعية القوة الصهيونية التي استحكمت في جبهات القتال أمام يافا.
عربيًا، وجد جهد عسكري محدود من أجل إعداد تنظيم عسكري يستعد للحظة الحرب، وفي منطقة يافا توجد مؤشرات على نشاط لهذا التنظيم الذي أشرف عليه عبد القادر الحسيني، وانضم إليه لاحقًا حسن سلامة. لكن التطور النوعي في بنية حامية المدينة حدث خلال شهر كانون الثاني/ يناير 1948 بعد حضور حسن سلامة إلى المدينة وتسلمه مسؤولية الدفاع عنها، وتجاوز المدينة السريع لبعض الخلافات الداخلية المتعلقة بإدارة الدفاع عن المدينة، واستمر هذا التطور في ضوء الدعم العربي الجديد للمدينة، ونضوج بناء حاميتها العسكري في شباط/ فبراير 1948، وانعكس هذا النضج في عديد الحامية وعدتها، وتطورت الاستحكامات العربية بشكل يومي مقابل تطور أيضًا للاستحكامات الصهيونية.
هل ساهم نزوح العائلات عن المدينة بإضعاف المدافعين عنها؟ وما هي الأثار النفسية لهجرة عائلات المقاتلين عليهم؟
بكل تأكيد، فالمؤشرات الوثائقية تؤكد أن أحد أسباب تفكك حامية المدينة مرتبط بانسحاب بعض المقاتلين مع عائلاتهم من أجل تأمين خروجهم من المدينة، وفاقم هذا النزوح سؤال الجدوى، فبعد أن نزح السكان عن المدينة بفعل تطورات القتال، خصوصًا في أيام المدينة الأخيرة، فلماذا نبقى؟ هذا سؤال طرح في يافا ولم يتصد أحد للاجابة عليه فكان ما كان.
كيف كان تأثير الحزام الاستيطاني الذي بناه الصهاينة حول يافا على سير المعارك؟
هذا الحزام كان له التأثير الكبير في تشكل جبهات المدينة المختلفة، لكن استطاع العرب من خلال الاستحكامات العسكرية المؤسسة خصوصًا في المناطق المسيطرة ناريًا على المستوطنات المجاورة، كمنطقة تل الريش، ومن خلال بعض العمليات الخاصة، كنسف استحكامات صهيونية أساسية واقعة على طريق القدس يافا نهاية شهر شباط/ فبراير 1948، إحداث ثغرات مركزية فيه. وقناعتي أن الوجود الصهيوني في جوار يافا، كان يشكل أيضًا عبئًا على الصهاينة، إذ وجد خشية من تحول المدينة إلى قلعة حصينة بميناء في ظهر القوات الصهيونية حال أي تدخل عربي في الجبهات الجنوبية، تمكن من قطع التواصل الصهيوني في مركزه الرئيسي، وهذا كان أحد مبررات "الإيتسل" لاستعجالها الهجوم على المدينة بخلاف رغبة "الهاغاناه" التي خططت للسيطرة على ريف المدينة وعزلها عن جوارها، والسيطرة على مواقعها الاستراتيجية وتدمير مقر قيادة حاميتها.
ما هي أبرز الإخفاقات الصهيونية خلال معركة يافا؟ وهل استغلها المدافعون العرب عن المدينة؟
كل العمليات العسكرية المركزية التي استهدفت المدينة فشلت، ويمكن عجزها عن تحقيق أهدافها المباشرة إخفاقًا، بالتأكيد كان لبعض هذه الإخفاقات أثر نوعي في مسار المعارك لاحقًا، كالإخفاق في احتلال تل الريش في كانون الأول/ ديسمبر 1947، والتي تحولت إلى قلعة حصينة عجز الصهاينة عن اختراقها، وتحولت لمركز سيطرة نارية عربية على كل الجوار الصهيوني.
كم كان عدد المقاتلين في حامية يافا؟
لم يكن هنا عدد راتب لمقاتلي حامية يافا، فالأعداد متغيرة بشكل يومي، وكذلك نوعية السلاح وعدده، لكن الأرقام تتراوح بين 1000- 1500 خلال الفترات التي شهدت نضج الحامية، أي من شباط/ فبراير 1948- نهاية نيسان/ أبريل 1948.
دائماً هناك حديث فلسطيني أن السبب الأهم في الهزيمة بحرب النكبة كان نقص العتاد، في حالة يافا كيف كان واقع التسليح العربي؟
بكل تأكيد معارك فلسطين كانت بحاجة لكل عتاد ممكن، ونقص الذخيرة حسم بعض المعارك، لكنه لم يكن العامل الأهم في حسمها، وحال يافا من حال بقية فلسطين، المدينة كانت دائمًا بحاجة لتعزيز عتادها، خصوصًا في السلاح النوعي كسلاح المدفعية، الذي خشي الصهاينة كثيرًا من حصول المدينة عليه، ورغم سعي المدينة لتعويض غيابه بجهد محلي إلا أن غياب المدافع وتوزيعها في جبهات أخرى ربما كان من أخطاء الاستراتيجية الكبرى المتعلقة باستراتيجية الدفاع/ الهجوم.
لكن في المجمل سقطت المدينة وعتادها لم ينفذ، وانتقل هذا العتاد للدفاع عن مناطق أخرى في فلسطين جنوبًا، بعد إخراجه من المدينة وتسليمه لمنطقة اللد.
في المصادر الصهيونية، هناك حديث دائم أن مدفع "دافيدكا" كان أحد العوامل التي دفعت أهالي يافا للهجرة، هل هذا حقيقي؟ وما قصة صناعة هذا المدفع؟ وهل كان في الجانب العربي والفلسطيني تجارب عسكرية مشابهة؟
كتبت سابقًا "يافا صنعت مدفعين"، مدفع دافيدكا هو فكرة صهيونية نتجت إثر الفشل في احتلال منطقة أبو كبير وتدمير الاستحكامات العربية فيها، وبعد مقتل اثنين من خبراء المتفجرات الصهاينة في الهجوم. وكانت فكرته أنه في ضوء ضعف التسليح الصهيوني يتوجب توفير سلاح يوفر تغطية للمقاتلين لتنفيذ هجماتهم على المنطقة لاحقًا، فشل دافيدكا في العملية العسكرية التالية في أن يشكل مثل هذا الغطاء، لكن وجد له أثر مادي ونفسي لم يكن متوقعًا.
استخدم دافيدكا في معارك يافا الأخيرة على جبهة الجبالية، لكنه أثره في المعركة عمومًا كان محدودًا، وربما كان لاستخدام "الإيتسل" لسلاح الهاون، رغم عشوائيته وجهل "الإيتسل" في تشغيله، كان اكثر تأثيرًا في مسار المعركة.
عربيًا وجد أيضًا جهد لبناء مدفع، اشتهر بمدفع يافا، وصهيونيًا عرف بمدفع "أبو يوسف" ورصدت استخدامه على جبهات المدينة، وكما يبدو انتج منه اكثر من نسخة، انفجر بعضها اثناء عمليات القصف، وأحدث المدفع أثرًا نفسيًا لا يقل عن مدفع دافيدكا، وأزعج وجوده أيضًا القوات البريطانية المحتلة، لكن الخشية الصهيونية الأبرز كانت من قدرة الحامية على جلب مدافع احترافية إلى المدينة، وكان قرار بن غوريون بضرورة تنفيذ أي شيء لتدميرها حال حدث ذلك.