قبل سنوات طويلة، كنت في صحبة أستاذ جامعي عربي نابه، متخصص في اللغة العربية ونحوها. وكان بلده قد شهد قبل ذلك اضطراباتٍ سياسيةً عنيفة. فأخبرني أنه كان يتابع أخبار الأزمة من جهاز راديو الترانزستر. وبين الفينة والأخرى، يعترض جهازُه، بغير تدبير، موجات التواصل بين عسكر النظام في ميدان العمليات. فذكر لي أنه في إحدى المرات سمع أحد الجند يخاطب قائده عن سير العمليات، فكان مما قاله: وقد قبضنا على " عشرون" منهم يا سيدي.
قال صاحبي معلقاً وهو يضحك: فكانت فجيعتي بخطئه النحوي، إذ رفع ما حقّه الجرّ، كفجيعتي بمحتوى الخبر وظروفه. أحشفاً وسوء كيلة! ضحكنا معاً. ولكنه كان ضحكاً كالبكا. ..
تذكّرت ذلك الموقف وأنا أشهد، مع غيري، هذه الرّدة المخزية والسوأة المخجلة في بعض الأعمال الدرامية التلفازية التي تُعرض الآن، ومعها مقاطع مصوّرة على وسائل التواصل لنفر من الآبقين المارقين المتصهينين. وهي تتراوح في رسائلها بين الترويج للتطبيع في أدناها وقاحةً وبين شيطنة الشعب الفلسطيني وتجريم الضحية ونفي حقوقها على الجملة حتى تحريض العدو الإسرائيلي على إفنائها، في أقصاها دناءةً وفجورا. وهو ما يتحفّظ الإعلام الصهيوني المتطرّف نفسه عن الجهر به. وليس ذلك تحفظاً أخلاقياً مبدئياً منه، وإنما لأنه، في الغالب الأعم، أقل غباءً من أن يفضح نفسه في خطابٍ إعلاميٍّ شديد الفجاجة والفاشية، يمكن أن يرتدّ عليه. ولو فعل لوجد من قومه من يتصدّى لغلوائه. وهم يدركون أن الخطاب الإعلامي والفني الأكثر تأثيراً هو الذي يتقمّص أساليب غير مباشرة، أو ظاهرها بعض العقلانية وإنْ كان باطنها من قِبَلِه العذاب.
"يجمع المتصهين العربي بين انحطاط المحتوى وفجاجة الأسلوب وانحطاط الشكل والتأتي"والتأتي. وإذا كان انحطاط الأسلوب مما يغيظ ذا الذوق الفني والإعلامي، على أسس منهجية خالصة، في الأحوال العادية، فلعل فيه بعض الخير في سياق موضوعنا هذا. ذلك أن تردّي الأسلوب وفجاجة الشكل يعملان، بالضرورة، على إسقاط الرسالة نفسها وفضح مرسلها، فتكون عليه عاراً وشناراً. بل تُفضي إلى موجةٍ من ردود الفعل المعاكسة، شديدة القوة والوقع والتأثير، وتحشد المشاعر مع المظلوم المستَهدَف، وقد تخرج في تدفقها وهيجانها من حصر التهمة في صانعي الجريمة إلى الوسط العام الذي يحيط بهم، وهو في جملته منهم براء، بل ربما كان أكثر غيظاً ورفضاً أن لوّث أولئك النفر صورته العامة على غير حقيقته. والقاعدة القرآنية أنه لا تزر وازرةٌ وزر أخرى.
لطالما ردّدتُ أن رسالة العمل الفني أو الأدبي تكمن في كيفية القول والخطاب على وفق مقتضيات النوع الفني. فإذا انحطّت الكيفية وشكل الخطاب الفني فقدت الرسالة تأثيرها، حتى لو كانت رسالة حقٍّ نبيلة. فكيف إذا انحطّ الشكل والرسالة معاً!
إذا كان هذا النفر القليل الذي تولّى كبر هذه الأعمال قد توخى خدمة المشروع الصهيوني، فإن ما انتهى إليه حقاً هو أنه أحبط بنفسه مقاصده الدنيئة، وأحيا في المقابل حمية الشرف والحق والعدل، وأعاد إلى الواجهة ما يتقابل بحدّة مع ذلك الهذاء وما يدفع به الناس تلك السوءات القبيحة، فالضد يُظهر حُسنَه الضدُّ.
فيا أيها العابرون بين الكلمات الصهيونية العابرة، تذكّروا على الأقل أن الصواب هو: قبضنا على "عشرين"، لا على "عشرون". ولا تجمعوا علينا أذى الأفكار القبيحة والعيّ. وإلا فلكم متّسع في العبرية، فيتفق مزاجكم الصهيوني مع لغة أحبابكم! أما نحن فأحرى بنا أن ننزّه أسماعنا وأبصارنا عنكم، فيكون المرسل والمتلقي واحداً!
المصدر: العربي الجديد