كان غسان كنفاني شابًا في أول الطريق يعمل في الكويت و يكتب يومياته القصيرة على شكل "بوستات قصيرة"، بلغة هذه الأيام.
كان يكتب بضع سطور قليلة ومتوترة، من يقرأها، يُدرك سريعًا أنها لشاب فلسطيني "عايف حاله"، كاتب طفران وغاضب تحاصره الاسئلة، ومثقف يقرأ كثيرًا ويكتب أحيانا، ويسخر دائمًا، لا يعجبه أيّ شيء، ويفتش عن طريق واحد، عن أي قارب يأخذه إلى هناك.. إلى عكا.
وفي تلك الفترة بالذّات ستقوده حبال الكآبة والغضب وربما الشعور بالعجز والحصار إلى كتابة روايته الأولى "رجال في الشمس"، لم يسبق أن قرّر كاتباً قتل أبطاله، هكذا، دفعة واحدة وعن قصد، في الصحارى وفي خزّان الموت، كما فعل هذا الكاتب المجنون.
كتب روايته تلك في فترة كانت فيها نهايات الأفلام والرّوايات العربية تفضي الى نهايات سعيدة دائمًا، وإلا اعتبرها النقاد "رواية فاشلة" لا بد من نهاية سعيدة ينتصر فيها "الحق" و " الحب " على الباطل ، نهايات متوقعة تشبه الافلام الهندية. لكن الرواية شكلت صدمة عند القرّاء والنقاد معًا، وفي الوقت ذاته، أعلنت عن قيامة كاتب جديد من طراز خاص.
ولذلك يقال اليوم إن غسان كنفاني هو الذي أنزل الأدب الفلسطيني من السماء الى الأرض، ومن المناجاة واللطميات الحزينة إلى طين المخيمات وارض الحقيقة ..إنها مدرسة الواقعية الثورية التي انتمى لها أدبيًا وثقافيًا وفلسفيًا قبل أن ينتمي لها بالمعنى الحزبيّ والسياسيّ.
وإذا كان الفلسطيني يشد الرّحال الى الصحراء ومدن الملح في تلك الأيام ، فإنه اليوم بعد انسداد كل الآفاق أمامه صار يسرج أوهامه وحبال خلاصة الفرديّ في قوارب الموت ويركب البحر، نعم، ثمة رجال ونساء وأطفال في البحر، الآن، الآن، وثمة شعب يقوده أبو الخيزران مرّة اخرى في صحارى التيه و المجهول. وثمة وباء وحصار مرة اخرى، اذن ، لن يموت غسان كنفاني وسيظل مثل قوس متوتر كلما حاصروه عاد وتسلل مرّة أخرى غير قابل للتدجين أو التذويب، يقرع رؤوسنا ومعها يدق جدران الصمت والخضوع حتى نفيق، حتى يعود إلى عكا، ويموت هناك، كان هذا حلمه : يعود ولو كومة عظام ..
اذن ، هو نبي الثورة، رسولها المتمرد الذي ظل يبشر بولادة الفدائي الجديد وحين ظهرت سمات الحمل هناك في خيام غزة وعلى الحدود وفي الأغوار والجنوب والجولان وعين الحلوة عاد إلى بيروت ينفخ تحت نار المقاومة و رمادها حتى تشتعل أكثر، ويكتب عن الرجال والبنادق. لقد صدقت رؤياه، وصار صوته هو صوت شباب الثأر و أبطال العودة ورؤية الكفاح المسلح فاعتبر العدو أن كلماته أخطر من القنابل والرصاص..
إن كل الكلام وكل النصوص بالنسبة إليه صارت مجرد تعويض صفيق عن غياب السلاح، كما قال، ولم يصدق كيف أن حلمه تحقق حين أطل من خلف التلال سرب من الفدائيين وكيف أشرق السلاح فانتمى اليهم طوعًا وحبًا وسرا وعلانية، بلا شروط ، من بوابة المخيم لا من نافذة الأنظمة وأجهزة المخابرات العربية .. واعتبر أن دور المثقف الثوري يكون في خدمة العمل الفدائي أو لا يكون...