شكّلت المقاومة، بأشكالها كافة، علامة فارقة في تاريخ فلسطين، وكانت انتفاضة موسم النبي موسى، التي اندلعت في الرابع من نيسان عام 1920، محطة تاريخية على مستوى العمل المقاوم، إذ إنّها أرّخت لبداية الانتفاضات الشعبية إبّان الاحتلال البريطاني لفلسطين.
كان موسم النبي موسى من ضمن المواسم الدينية التي أقرّها القائد صلاح الدين بعد فتح بيت المقدس عام 1187، وكان الهدف من هذه المواسم التي تمتد من آواخر آذار حتى نهاية نيسان، أن تكون نواة لتجمّعات شعبية حاشدة بالتزامن مع قدوم المسيحيين الغربيين إلى فلسطين لزيارة الأماكن المقدّسة في عيد الفصح. وكان يتخلّل موسم النبي موسى العديد من الفعاليات، من بينها المباريات والمبارزات بين الفرسان وما يرافقها من استعراض للجهوزيّة والقوّة لـتأكيد الاستعداد الكامل لمواجهة أيّ اعتداء قد يفكّر الوافدون في القيام به. ويعدّ موسم النبي موسى من أهم المواسم في فلسطين، لما ارتبط به من بعد سياسي وطابع عسكري، إذ إنّه أسّس لما سيليه من نهج قائم على رفض الاحتلال ومقاومته.
اندلاع الانتفاضة وتطوّرها
كانت بداية موسم النبي موسى في الأسبوع الثالث من نيسان/أبريل، ويسبق ذلك ما يسمى بـ "جمعة المناداة" حيث ينادى بعد صلاة الجمعة كي يستعد المواطنون للنزول إلى مقام النبي موسى الذي يبعد عن القدس حوالي 30 كلم على طريق القدس-أريحا. وكان على جميع أهل القدس الاستعداد لاستقبال الوفود التي تأتي من نابلس والخليل وغيرها، للبدء بالاحتفالات قبل التحرك إلى المقام.
وفي عام 1920، اجتمع الفلسطينيون لموسم النبي موسى وتداعى أهلق القدس في 4 نيسان إلى استقبال أهل الخليل القادمين إلى المدينة ككل عام. وشارك في الاستقبال أبناء القدس وقراها وأبناء نابلس ووفود مختلفة، تصدح حناجرهم بأهازيج حماسية. وكانت الخطابات حاضرة بقوة في هذه المواسم، ويقول عبد الحميد الكيالي في كتابه "تاريخ فلسطين الحديث"، إنّه لم يكن مستغربًا أن تقرر الأوساط الوطنية والعربية في فلسطين تحويل أي تجمع إلى مناسبة للاحتجاج ضد الصهيونية والإدارة البريطانية.
وتتعدّد الروايات حول السبب الكامن وراء تفجر الصدامات يوم 4 نيسان، منها رواية ينقلها محمد كامل خلة في كتاب "فلسطين والانتداب البريطاني"، ومفادها أن الشرطة البريطانية منعت وفد الخليل من الدخول إلى القدس من باب الخليل فعمد أحد الفلسطينيين إلى ضرب عنصر من الشرطة ثم دهمت جماهير الخليل الباب ودارت اشتباكات مع اليهود ثلاثة أيام. أما عيسى السفري فيقول في كتاب ""فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية" إنّ المقدسيين هرعوا إلى استقبال وفد الخليل، وكان استقبالًا عظيمًا اشترك فيه أبناء القدس وقراها، وأبناء نابلس ووفود البادية والطوائف المسيحية المختلفة، ينادون بالوحدة العربية والاستقلال ورفض الهجرة الصهيونية وإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، والدعاء للملك فيصل. وألهبت الخطابات التي ألقاها الشبان المتحمّسون شعور المتظاهرين، وصودف مرور يهود بين الجماهير الصاخبة، فهاجت الأفكار واحتدمت نيران الفتنة بين الطرفين. ومهما يكن السبب وراء اندلاع الأحداث، فإنّ "حالة الهياج التي سادت بين المشاركين في الموكب جعلت أيّ حدث كفيلاً بإحداث الانفجار"، وفقًا لما يقوله الكيالي.
وعلى أي حال، لم تكن انتفاضة موسم النبي موسى وليدة ساعتها، بل جاءت في سياق من التطورات التي خلّفت حالة من السخط بين الفلسطينيين من وعد بلفور في عام 1917، والسياسية البريطانية التي عززت التغلغل الصهيوني في فلسطين، واللجنة الصهيونية التي وصلت إلى فلسطين عام 1918 واستفزازها للعرب، وقرار السلطات البريطانية منع المؤتمر الفلسطيني من عقد دورته الثانية في شباط 1920.
واستمرت الانتفاضة وما رافقها من اشتباكات وأحداث متفرّقة حتى 10 نيسان على الرغم من أن السلطات البريطانية أعلنت الأحكام العرفية؛ واستشهد نتيجتها أربعة فلسطينيين وقتل خمسة صهاينة فيما أصيب المئات من الجانبين.
دلالات الانتفاضة وتداعياتها
حطّت انتفاضة موسم النبي موسى رحالها يوم 10 نيسان، لكنّ دلالاتها وآثارها ومفاعيلها كانت بدأت للتو. وعلى الرغم من أنّ تلك الانتفاضة لم تغيّر السياسات البريطانية في فلسطين أو تضع حدًا لها، إلّا أنّها شكلت ترجمة فعلية للوعي العربي بمخاطر الاستيطان والاحتلال، وكانت تعبيرًا عمليًا أخرج هذا الوعي من دائرة "المقاومة السلبية" عبر الخطابات والمراسلات والشكوى، إلى حيّز المبادرة والإقدام والالتحام. وعلى الرغم من تجريد الموسم اليوم من بعده السياسي والتعبوي واقتصاره على الجانب الاحتفالي وحسب، فإنّ ذلك لا ينفي أنّ انتفاضة موسم النبي موسى كانت أوّل مقاومة شعبية ضخمة ضد الاحتلال، وهي أسّست لما سيليها من محطات للمقاومة التي كان من أبرزها هبّة البراق عام 1929، والثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، وهبة النفق عام 1996، وانتفاضة الأقصى عام 2000، وانتفاضة القدس عام 2015 وصولًا إلى هبة باب الأسباط عام 2017 وهبّة باب الرحمة عام 2019.