تلك البقعة الضيقة على وجه الكرة الأرضية التي لا تتجاوز مساحتها 365 كيلومتراً مربعاً شاكست العالم بأسره، وأصابته بالجنون لخصوصيتها في القدرة على المواءمة بين الحياة والموت، فهي تجيد توظيف حاسة السمع في التركيز قسراً مع الصواريخ التي تتساقط مساءً بشراهةٍ على كلّ مكان يحط الغزيّ قدميه فيه، لتعيد في صباح اليوم التالي إنتاج صوت التحدي لتلك الأصوات الساعية لفرض نقيض كل ما من شأنه أن يربط الفلسطيني بغزته!
إن صوت التحدي هذا لا يقتصر على من يصوّب رصاصه الحيّ نحو صدر العدو أو من يطلق صاروخاً من نوع غراد على عسقلان أو أسدود المحتلتين، بل يطال كذلك الفنّ بجميع أشكاله، باعتباره في نظر البعض وسيلة من وسائل الحشد والدعاية الوطنية سواء كان بأغنيةٍ أو مسرحيةٍ أو لوحةٍ فنية أو غيرها.
ومن بين الأطياف الفنية التي تصنف لدى المهتمين كفن "متمرد" و"ثائر" فن "الراب" الغربي الذي أتقنه بعض الشباب الفلسطيني في غزة رغم قلة إمكاناتهم، ورغم ما يصفونه بالقيود المجتمعية والحكومية التي تحيط بفنهم، لكنّ الرسالة التي حملتها أغانيهم كسرت القيود جزئياً بقوتها وواقعيتها.
ويعدّ الراب أحد فروع ثقافة "الهيب هوب" الرئيسية، وهو فن موجود قبل ولادة هذه الثقافة بعقود، ويطمح مغنوه من خلاله إلى التحدث عن ذواتهم بهمومهم وأفراحهم، أو التعبير عن قضية شائكة تهم المجتمع، أو الإعلان عن حالة غضب وانفجار من الأزمات الداخلية التي تعصف بواقعهم.
والراب ليس إلا مزيجاً من الشعر والنثر والغناء، ارتبط في ستينات القرن الماضي بلغة الأفارقة الأمريكيين، يتألف من كلمات متناسقة تحكمها القوافي دون الالتزام بلحن معين أو وجود الإيقاع، كما أن المعيار الحقيقي فيه لا يتمثل في صوت المغني، بل بكلمات الأغنية والقضية وأسلوب التعبير عنها بحرفية عالية.
يقصّ أحد مغني الراب الغزيين على "شبكة قدس" حكايته ورحلته في عالم الراب، فيقول الشاب محمد السوسي: "انطلقتُ في عالم الراب عام 2008 رغم صعوبة اقتحام هذا العالم، نظراً لعدم امتلاك غزة الخبرة الكافية في هذه الموسيقى، ومحاولة كثيرٍ من الموهوبين تطوير مهاراتهم في هذا المجال ذاتياً"، مبيناً أن أهم أعماله الفنية الآن هي: لساتني بحارب، ما استغربنا اكتير، واسطة شيك، قيادة الشغب.
وبحسب السوسي، يستطيع فنانو الراب التركيز على أكثر من موضوع في أغنية واحدة، واستعمال كلمات تحمل عدة معاني في اتجاهات حياتية مختلفة، خاصةً حينما يتعلق الأمر بالقضايا المحلية والاجتماعية التي تهم المواطن العادي البسيط، أو حتى في الجوانب السياسية التي تحمل تعقيدات كثيرة يشعر المرء بحاجة للتعبير عنها بطريقة مختلفة.
وما يميز الراب عن غيره من الفنون أن الموهوب في هذا المجال تُتاح له فرصة الكتابة والتلحين ودمج أي موسيقى في أغانيه، دون الحاجة لصوت طربي نقي، لكن بشرط اختيار موضوع الأغنية بدقةٍ تامة وفق احتياجات المجتمع، وعرض المشكلة وحلها لصناعة التغيير، وعدم الاكتفاء بأسلوب المطالبة مثل "نريد الحرية.. نريد حلاً للانقسام".
ويرى السوسي أن تفاعل الفلسطينيين في غزة مع هذا الفن لم يرقَ بعد للمستوى المنشود، بسبب تشويهه من قبل بعض ممن أسماهم "الهواة المتاجرين بالقضية الفلسطينية"، أو المقلّدين لفناني الراب الغربيين من حيث المظهر، الأمر الذي يتنافى مع طبيعة البيئة الفلسطينية المحافظة في غزة، مما يترك انطباعاً سلبياً عن هذا الفن في أذهان كثيرين.
إضافة إلى بعض القيود المجتمعية الناتجة عن النظرة المسبقة لهذا الفن، يرى السوسي أن سياسة حكومة غزة تقيد انتشار وتطور هذا الفن. ويقول السوسي بهذا الخصوص: "الحكومة في غزة ترى أن موسيقى الراب تقّدم ضدها، لذا تمنعها بشكل رسمي أو غير رسمي، فضلاً عن اتهام مغني الراب بالانحراف وتناول الممنوعات، بينما فن الراب الذي نقدمه مفعم بالرسائل السياسية والاجتماعية الهامة".
ويؤكد السوسي منعه وفرق الراب الشبابية الأخرى من المشاركة في بعض الاحتفالات والفعاليات من قبل حكومة غزة، حتى وصل الأمر لتجنب بعض المؤسسات دعوة مغني الراب لتقديم فقراتهم في الفعاليات بسبب المضايقات الحكومية، رغم حاجتهم الماسة لفعاليات كاملة مستقلة.
ويسعى فنانو الراب، ومن ضمنهم السوسي، إلى البحث عن داعم حقيقي لهم يؤمن بقوة رسالتهم ويمنحهم فرصة الظهور والمشاركة في الفعاليات المختلفة بغزة وخارجها، بشرط موافقة الحكومة لتجنب أي صدامات بين الطرفين.
ويخطط هؤلاء لتحفيز الفلسطينيين في غزة على الإقبال على هذا الفن، عبر شرحه من خلال ورشات عمل تنظمها مؤسسات فنية وثقافية، علّهم يغيّرون صورة الراب المغلوطة بأذهان الغزيين، ويقتنعون بمدى قدرته على مواجهة الاحتلال والظروف القاسية التي يمر فيها الفلسطينيون.