في الوقت الذي أمشي في الأرض الواسعة والمساحات الخضراء، في هذا الأفق البعيد، تتملكني رهبة الوقوف أمام البحر، أتذكر تماماً شعوري في كل مرة وقفت فيها أمام البحر، هي مرات قليلة جداً ولكن أثرها أبدي، في المرة الأولى، وكانت في عسقلان، لم أقدر على نطق سوى كلمة واحدة، "بحر"، كررتها مرة، اثنتين، ربما أكثر، الآن أدركت دهشة امتداد البحر، امتداد الأزرق المتصل بالأزرق، أزرق البحر مع أزرق السماء، هذه رهبة لا تشبهها أي رهبة، رهبة مختلطة بين الخوف والفرح.
في المرة الأخيرة، وكانت في غزة، أدهشني مع الأفق الممتد البعيد الذي يأخذ القلب، صوت الموج الذي ربما كان في المرة الأولى أقل حضوراً. هذا الأفق، وهذا الامتداد، وهذا الموج، كلها أشياء تجعلك ممتلئ، تملأ صدرك بالفرح وأحياناً أخرى بالألم، في حين أن ذهنك يمتلئ بالكثير، الكثير من الأسئلة التي ربما لا إجابة لها، الكثير من التحليلات التي لا تفهمها، الكثير من المعاني التي تعجز في حينها أن تترجمها الى كلام يفهمه الآخرون، هذا الشعور يتسلل في داخلي، حين أمشي في الأرض والمساحات الواسعة الممتدة بخضرتها الغالبة، بينما تتوزع الألوان الأخرى وتضفي سحرها الذي تدركه بعد عودتك من شرودك بالأخضر الممتد.
خلال تجوال في كردلة بالأغوار الشمالية، وقبله تجوال الجفتلك، رافقني ثقل الشعور نفسه، أهرب منه أحياناً بالحديث مع الأصدقاء، فيعود، أهرب منه مجدداً بحديث آخر، يعود أيضاً، لا سيما في محطة المطلة في تجوال كردلة والتي تطل على مساحات واسعة وخضراء من جهاتها الأربعة، في حينها يعلو صوت الأصدقاء بأغاني الكرتون التي تفرح القلب فتخفف زخم الأسئلة والامتلاء.
غادرت سابقاً البحر ولم يغادرني، وفي كل تجوال نغادر الأرض ولا تغادرنا، بعد يومين من التجوال ما زالت الصورة تملأ رأسي والأسئلة تتكاثر، والزخم يتراكم، لماذا على البحر أن يكون بعيد جداً بالرغم من قربه؟ لماذا صوت الموج يتعالى بينما لا نراه؟ لماذا تُصنع الحدود؟ لماذا على الحرية أن تُطلب؟ لماذا على الأرض أن لا تكون ملكنا؟ لماذا على الحق أن يُنتزع لا أن يُمنح؟ لماذا علينا أن نكون الدروع الرادعة طوال هذه السنوات؟ لماذا علينا أن نواجه وحشية الغريب وتعاون القريب معه؟
أرى كل هذا الجمال وأتساءل لماذا لا يراه من يساوم على الأرض؟ أتساءل أيُّ قلب يقدر أن لا يرى الجمال؟ أيُّ قلب يهون عليه كل هذا الجمال؟
في قرية كردلة فقط أربعة بيوت حاصلة على رخص للبناء، والآخرون مهددة بيوتهم بالهدم، أراضيهم قد تذهب قريباً للمستوطنات المحاذية التي يزداد توسعها سريعاً.
حكت لنا إحدى الجدات في كردلة عن التهجير وضرب القذائف واحتلال الأرض في عام 1967، حكت لنا عن عودة الناس إلى البلد بالرغم من الترهيب والتخويف، منذ ذلك الحين والناس تواجه كل الإعتداءات على الأرض والناس.
الآن في كردلة يزرع السكان الأرض بالمحاصيل المتنوعة من خضراوات وعنب وغيرها، يبنون بيوتهم عمودياً لا أفقياً تفادياً للهدم، يصل عدد سكان القرية الى 300 نسمة تقريباً، إلا أنهم عملوا على بناء مدرسة، يحتوي الصف الواحد على عدد قليل جداً قد يصل إلى خمسة أطفال أحياناً، وهذا برأيهم يعمل على تحسين مستوى التعليم حيث يكون لدى المعلمة الوقت الكافي للتركيز على كل الطلبة وإعطائهم حقهم في التعلم.
بين الأسئلة التي تتولد في كل تجوال، والقصص والمعلومات التي يرويها أهل المناطق التي نذهب إليها، والتحديات التي يواجهونها هناك طاقة من الأمل التي تدفعنا إلى المغادرة وقلوبنا ليس فقط مليئة بثقل الأسئلة وإنما أيضاً مليئة بالفرحة، هناك قلوب ترى الجمال، قلوب تحب البلاد، وتدافع عنها، هناك من يحمي البلاد. ما وضع قلوبنا الآن؟ بالتأكيد هي مليئة، لكنها مليئة بالفرحة، مليئة بالحب، مليئة بالمسؤولية تجاه الأرض وتجاه ذواتنا وتجاه الآخرين، ماذا علينا أن نفعل؟ من نحن بين كل ما يحدث حولنا؟
بالفعل نحن مثقلون، البحر يبتعد حيناً بعد حين، الأرض تُنهب وتنهب بدون توقف، كل يوم شهيد أو أسير، أو موت آخر، ضيق معيشة أو عمل، تسارع مع الزمن، تسلط مسؤول، استغلال حاجة، وغيرها الكثير، فأي قلب يحمل كل هذا؟ ولكنا كلما ابتعدنا، يعيدنا المشي إلينا، وكلما هربنا، تعيدنا الأرض إلينا، ويبهرنا سحر عطائها ويدهشنا أفقها الممتد، ويذهلنا جمالها، فأيُّ قلب يهون عليه كل هذا الجمال؟!