للجمعة الثانية على التوالي يواصل ما يقارب عشرة آلاف فلسطيني شد الرحال للمسجد الأقصى المبارك تحت شعار (فجر الأمل) رغم محاولات الاحتلال إفشال الجمعة الأولى التي كانت تحت شعار (الفجر العظيم)، وذلك حينما اعتدت شرطة الاحتلال على المصلين بالضرب والاعتقال وإطلاق الرصاص المطاطي، ورغم ما تلي ذلك الفجر من اعتقالات وإبعادات طالت العشرات من أبناء القدس.
ليس سرًا بأن نقول إن الدعوات لهذا الحراك انطلقت من مبادرة شعبية خالصة لم يكن وراءها أي جهة سياسية، وبعيدة كل البعد عن التسابق الفصائلي. ومع الأسف أي توجهات شعبية تواجَه من قبل الاحتلال وغطرسته وبطشه.
هذا الحراك الشعبي جاء بعد نجاح تجربة أهلنا في خليل الرحمن بأداء صلاة الفجر بالمسجد الإبراهيمي الشريف في سياق الرفض لسيطرة وهيمنة الاحتلال عليه، والتي كرستها اتفاقية الخليل الموقعة بين السلطة والكيان بعد قدوم السلطة.
ماذا تريد الحالة الشعبية بالقدس وما هي رسائلها؟
ربما لا يعي البعيد عن تجارب الشعوب الساعية وراء نيل حريتها بشكل عام والقدس بشكل خاص، حيث أن لهذا التكاتف والالتفاف الشعبي حول فعالية ما مضامين ورسائل تظهر للآخرين في حال تعمّقوا بالتفكير فيها قليلاً.
نعاني في مدينة القدس المحتلة ما نعانيه من كوارث ونكبات على مختلف الأصعدة والجبهات، وتقدم الاحتلال في بعضها حتى بات على مشارف فرض سيطرته المطلقة كالتعليم مثلًا والاقتصاد والآفات الاجتماعية من مخدرات وجرائم وتفكك أسري واجتماعي وغيره، وما كان لهذا الاحتلال أن يتقدم لولا حالة التشرذم في الوسط السياسي الفلسطيني من فصائل ومؤسسات، ما نتج عنه غياب المرجعيات الوطنية القادرة على وضع وتنفيذ برامج وطنية بما يضمن بالحد الأدنى تعطيل الأسرله الكاملة على القدس.
ولكن هذه الصورة القاتمة لا تنطبق على المسجد الأقصى المبارك رغم المشاهد اليومية المؤلمة لتدنيس شرطة الاحتلال وقطعان المستوطنين له، ومحاولات الاحتلال “المحمومة” لفرض سيطرته بدون أي موقف من الجهات الأردنية التي تتغنى بالوصاية على المسجد، بل وتواطؤ بعض الجهات بالوقف الإسلامي مع الاحتلال، وعدم الاكتراث لهم، ورغم معرفتهم بحجم الخطورة على محاولات الاحتلال بشطب الوصاية الأردنية على المقدسات بالقدس، ورغم ذلك فشل الاحتلال حتى الآن في فرض مشروع التقسيم المكاني والزماني بالمسجد الأقصى، كما فشل أيضًا بفرض البوابات الإلكترونية وكاميرات المراقبة، وفشل كذلك في إعادة إغلاق مصلى “باب الرحمة” الذي فتحه الفلسطينيون بأيديهم، رغم أنف الاحتلال وإدارة الوقف الإسلامي في حينه، وفشل في اقتلاع الروح الجماعية للرباط بالأقصى.
ولعل أهم الرسائل التي يجب أن يسمعها الاحتلال وغيره من هذا الحراك الشعبي أن حلم الاحتلال بفرض التقسيم على المسجد الأقصى “حلم رومنسي صعب المنال”، وكلّما حاول الاحتلال التخلّص من جيل، أتاه جيل أقوى وبعزيمة أكبر وصاحب مواقف مشرّفة.
والرسالة المهمة من هذا الحراك تتعلق بموضوع “باب الرحمة”، فعلى الاحتلال إنهاء تخيّلاته السخيفة بإمكانية إعادة العجلة إلى الوراء، فاليوم بتنا نرى جيلًا جديداً يعي تماماً الحقيقة التي حاولوا تغييبها بأن “باب الرحمة” جزءاً لا يتجزأ من مصليات المسجد الأقصى، فلا لإغلاقه ولا لتحويله لمرفق إداري أو ما شابه.
وهذا أيضًا ليس كل شيء، فالأقصى آخر الخنادق المباركة التي بقيت، بل والعصب الذي من أجله لربما لا يتسع هذا العالم لمواجهة غضب أبنائه، إضافة إلى أن لما ستشهده الأرض المحتلة من مظاهر مشابهة من “فجريات” إذا صحّت التسمية تتماهى مع ما يجري بالقدس، رسالة بأن الأقصى فوق كل شيء وقبل كل شيء وهذا أيضًا ليس كل شيء.