يشهد الوسط الطلابي العربي في الجامعة العبرية نقاشات نشطة حول "عسكرة الجامعة"، وذلك بعد أن تحوّلت الجامعة العبرية إلى ثكنة عسكرية بعد توقيعها على اتفاقية مع "سلاح الاستخبارات العسكرية الصهيونية" لتأهيل جنود الاستخبارات أكاديميا في الجامعة. وبحسب بيانات الحركة الطلابية فإنّ هذا التواجد العسكري الفظّ قد حوّل الحيّز الأكاديمي إلى حيّز مُعسكر بفعل تواجد الجنود الصهاينة في الجامعة بزيهم العسكري وأسلحتهم، وما نتج عن هذا التواجد من تخصيص مساحات دراسية وسكنية خاصة بالطلاب الجنود حُرم منها الطلاب العرب.
ويقول الطلاب العرب، إن هذا التواجد العسكري المكثف واليومي سبب حالة من "التوتر النفسي" لدى الطلاب العرب، من تمظهراتها؛ التردد والخوف في إبداء الرأي والنقاش في المحاضرات في القضايا الحساسة سياسيًا، التحسس من القرب بين الأجساد المُستعمِرة بزيها العسكري والمستعمرَة في قاعات الدرس والمكتبة وباقي المرافق الجامعية، والشعور "بالذنب" من كون الطلبة العرب، دون إرادتهم، تحولوا إلى مكوّن من عملية تأهيل جنود الاستخبارات الصهاينة وفي هذه الجزئية الأخيرة يمكننا الإشارة إلى ما يوفره التواصل باللغة العربية من فرصة ثمينة لجنود الاستخبارات لتعلم اللغة العربية بلهجاتها المختلفة، بالإضافة إلى التعرف على "الثقافة" العربية المعاشة عن قرب.
في المحصلة يعبر الطلاب عن اتجاه عام نحو اخفاء "هويّتنا الفلسطينيّة والتنازل عن مركباتها الثقافيّة، الاجتماعيّة والدينيّة" كردة فعل على هذا "الوسط العدائي".
تأتي هذه النقاشات في سياق التحضير لحراك احتجاجي ضد عسكرة الجامعة ودائما بحسب الطلاب، على اعتبار أن هذه العسكرة هي "ممارسة عنصريّة موجّهة لتضييق مساحتنا الأكاديمية، تتنافى مع القيم الأكاديمية العلمية العالمية، ومُمارِسَة احتلالًا فكريًّا إضافيًّا مكملًا لسياسات الاحتلال الصهيونيّة… ولجعل العلاقات العنيفة أمرًا طبيعيًّا متناقضًا مع واقع قدسنا الأليمة".
(1)
إنّ "التوتر" الناشئ عن "عسكرة الجامعة" ومن ثمّ الحراك الطلابي المرتقب ضدها، يشكل فرصة لإعادة التفكير في علاقة الطالب العربي بالمؤسسة الأكاديمية الاستعمارية، والمعنى المركب لوجوده فيها. وذلك من خلال فحص الكيفية التي قرأ بها الطلاب العرب عسكرة الجامعة، ومكونات الجهاز المفاهيمي الذي استخدموه في الحديث عنها، وعن الإشكاليات التي سببتها "العسكرة". فقد اعتبر البيان الذي أصدرته التجمعات الطلابية العربية أن "عسكرة" الجامعة تتنافى مع "القيم العلمية الأكاديمية العلمية" وهذه قراءة ليبرالية أولا، وثانيا لا تتفق مع الحالة الاستعمارية في فلسطين من حيث أن "إسرائيل" مجتمع حربي استيطاني مقاتل لا تنطبق عليه ثنائية المدني - العسكري، ناهيك عن الحقيقة التاريخية أن الجامعة العبرية منذ نشأتها لعبت دوراً عسكرياً فعلى سبيل المثال فقد احتضنت مختبرات تطوير الأسلحة والمواد المتفجرة والحارقة التي استخدمت في حرب النكبة 1948، بالإضافة إلى كونها عبر تاريخها قلعة للدراسات الاستشراقية المحاربة، هذه الدراسات التي لا يمكننا اختزال فهمنا لها بالرجوع فقط إلى نقد الاستشراق المتداول في نظرية ما بعد كولونيالية الذي يركز على نقد صورة "الشرق" المشوهة وصورة المشروع الصهيوني كمشروع حداثي. وإنما يجب تضمنيه البعد العملي العسكري المعبر عنه بمعرفة العدو.
ليس هذا فحسب وإنما من المهم هنا الانتباه إلى أن "إسرائيل" قوة دولية رائدة في عولمة عسكرة مجالات الحياة المختلفة ومن ضمنها الأكاديمية، وقد تسارعت عملية العسكرة هذه في زمن "الحرب على الإرهاب" والحروب الاستعمارية الحديثة في العراق وأفغانستان. هذه الحرب والحروب التي انخرطت فيها معظم جامعات العالم الغربي حتى أكثرها "نقديّة" بأشكال متعددة أكثرها وضوحا البرامج المشتركة مع الجيوش الغربية والأجهزة الأمنية.
وهنا تصبح مهمة نقد الإطار المعرفي المتداول في فهم ودراسة العسكرة أحد استراتيجيات مواجهتها وعلامة على التحرر المعرفي من الجهاز الأيديولوجي الاستعماري الصهيوني من ناحية دوره في نفي الحالة الاستعمارية عن " إسرائيل".
(2)
لعل الاستنتاج الأولي الذي يمكننا الخروج به من امتعاض الطلبة العرب من التواجد العسكري "الطارئ" في الجامعة، هو أن هذا التواجد العسكري أربك "الحالة الطبيعية" "الخالية" من التوتر "وغير العدائية" التي كان يشعر بها الطلاب في الجامعة، مع أن المؤسسة الأكاديمية الاستعمارية أشد أجهزة الاستعمار عنفاً من ناحية وظيفتها في تدجين المستعمَرين من بوابة كيّ الوعي الناعم، وفي دمج المستعمَرين في النظام الاستعماري الاقتصادي الاجتماعي.
هنا تتجلى قدرة الطارئ المربك على كشف هذه البنية المستقرة وإخضاعها للفحص. دون أن يعني هذا أن هذه "الحالة الطبيعية" يغيب عنها التوتر في علاقة المؤسسة بالطلبة العرب، هذا التوتر الذي استقر الوعي والشعور به من بوصفه عنصرية المؤسسة الأكاديمية الصهيونية. ولكن يبدو وصف العنصرية هذا مربكاً بالنظر إلى سعي الجامعة إلى زيادة عدد الطلبة العرب، والترحيب بوجودهم فيها، والعمل على تعزيز روابطها مع المجتمع المقدسي.
(3)
يتقدم وعي الطلاب خطوة بتعريفه لوجوده في الجامعة كامتداد للوجود الاجتماعي المقدسي ولكنه يرتبك في حصره للعلاقة العنيفة بالعنف العسكري، ليعاود الاطمئنان في وصفه للعسكرة كمكون إضافي مكمل لسياسات الاحتلال.
لا تبدأ المشكلة مع الوجود العربي الطلابي مع العسكرة ولا تنتهي بوصفها عنصرية، والهوية الفلسطينية للطالب العربي مهددة سواء سمحت بها المؤسسة الأكاديمية الصهيونية أو أجبرت العسكرة الطارئة الطالب على إخفائها، ووجوده فيها معذّب وإشكالي سواء أعطته المؤسسة الحرية في النقاش وإبداء الرأي السياسي، أم امتنع الطالب العربي عن إبداء رأيه بسبب الطالب الجالس بجانبه بزيّه العسكري. وعلاقة المؤسسة الأكاديمية علاقة عنيفة بطلابها العرب قبل العسكرة وبعدها. دون أن يعني ذلك كله السكوت والقبول "بعسكرة" الجامعة وإنما يعني ذلك كله أن "العسكرة" فرصة للبدء في بناء حركة طلابية عربية واعية بتناقضات الوجود الطلابي العربي في المؤسسة الاستعمارية الأكاديمية ومن ثمّ النضال المتسق مع هذا الوعي الصعب.