شبكة قدس الإخبارية

بمهلة 5 دقائق للهروب من الموت... عائلات بغزة مُحيت وأخرى شردت

98
يحيى اليعقوبي

المسنة «أبو ملحوس»... المتبقي الوحيد لـ 13 طفلاً ناجيًا من «القصف المميت»

الطفلة نرمين السواركة بعدما فقدت والديها: فجأة وجدت نفسي تحت التراب

حينما نام «محمد» ليلته الأولى بدون والديه وشقيقه

في «أكثر الأماكن أمنًا» قُتل «أيمن» قبل أن يُولد

ببدلة «حمراء» ممزقة .. الصواريخ حرقت فرحة العروسين «محمد ومروة»

«أبو صابر»: المتصل أمهلني 5 دقائق وقال: «الطيارة راحت تجيب حمل تقيل لبيتك»

قطاع غزة- قُدس الإخبارية: كل الذين توجعوا من الفقدان لن تشفي الدموع جروح قلوبهم، لن تعيد لهم من رحلوا، فأي إنسان يرحل لا ينتهي بنظر الذين يحبونه إلا إذا غسلوه بالدموع.. الدموع هي ذرات التراب الأخيرة التي تقول لهم إنهم رحلوا.. المسنة سلمية أبو ملحوس (السواركة) وقفت حائرة أمام تسعة جثامين لأبنائها وأحفادها ممددة أمامها، تنثر الماء من عيونها على أجسادهم.

كانت صامتة في مراسم وداعهم دون كلام، فالفراق هنا لسانه الدموع، تعيش "مجزرة" محت عائلتها وخطفت نجليها الوحيدين من الذكور "محمد" و"رسمي"، لا تعرف من تودع أولًا وعلى أي جبين تضع قبلتها الأخيرة قبل مواراتهم الثرى، فظلت تتجرع مرارة الحسرة بعد أن استوطن  الحزن قلبها ساكنة صامتة، فلا يمكن للدموع استرداد الراحلين.

حينما تتأمل هذه القصص، عليك أن تترك قلبك جانبا حتى لا تبكي وتذرف دمعًا على حال تلك العائلات التي أصبحت مشردة بفعل الحروب؛ وإن خانتك دموعك فدعها تنساب على وجنتيك، و تهرب بصمت لأن صوت عذابات القهر ستسمعها هنا.

القصة؛ الشقيقان "محمد" و"رسمي" كانا يعيشان في بيتين صغيرين مسقوفين بألواح "الزينكو"، نائمين مع أطفالهما في بيتيهما، ترافق نومهم "أحلام جميلة بالعيش حياة أفضل"، أغلقوا آذانهم على أصوات الصواريخ في الخارج خلال جولة عدوان إسرائيلي على قطاع غزة، لكن طائرات الاحتلال لم تدعهم ينامون دون أن تلقي عليهم أربعة صواريخ، ليستشهد في "المجزرة" تسعة أفراد ويصاب 12 طفلاً.

أشلاء وإصابات.. أربع حفر عميقة في الأرض.. أطفال انتشلوا من تحت التراب، لا يزالون يعيشون على وقع الصدمة، بعض ألواح "الزينكو"؛ أربعة أطنان من الصواريخ ألقيت دفعة واحدة على المنزلين الصغيرين الواقعين بمنطقة دير البلح وسط قطاع غزة بعد منتصف ليلة الخميس 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، "مجزرة" ستبقى شاهدة على ألم كل طفل من عائلة "أبو ملحوس" سيعيش ما تبقى من عمره بلا أب، ولن تمحو الأيام صوت الصواريخ وهي تسقط بلا رحمة عليهم حتى أحالت بيتيهما إلى ركام.

احتضنت الشهداء والناجين

في الغرفة ذاتها التي ودعت فيها المسنّة "أبو ملحوس" أبناءها وأحفادها، تجلس اليوم لكن هذه المرة محاطة بجميع أحفادها الناجين من "القصف المميت".. في هذا العمر وبعد أن طرقت باب السبعين عاما من عمرها أُجبرت على أن تعود إلى التربية من جديد، لكن هذه المرة عليها أن تربي 13 طفلًا من أحفادها الذين فقدوا آباءهم، لتتحمل مسؤولية وأعباء كبيرة ألقيت على كاهلها، وهي بالكاد تستطيع المشي بخطوات متثاقلة، ولم ترمم بعد جروح قلبها من فراق أحبابها.

اهتزت أصابعها وهي تحاول الإمساك بيد الكرسي البلاستيكي قبل أن تجلس عليه، أصبحت وحيدةً مع هؤلاء الأطفال إلا من وسام (35 عامًا) إحدى زوجتَيْ نجلها "رسمي" التي نجت من الموت، تعينها على حِملها.

الشمس تتوسط قلب السماء .. عقارب الساعة تشير إلى الثانية ظهرًا، حينما وصلنا بيتها القديم المنفصل عن بيتي نجليها الشهيدين على بعد نحو كيلومتر، ومسقوف بألواح "الإسبست".

ترسم عيون كل طفل حولها قصة ألم وفراق، أرواح تتراوح أعمارها ما بين ثلاثة إلى 12 عامًا، يعيشون بلا أحضان أمهاتهم وقبلات آبائهم الدافئة، كأن الحياة تجمدت أمام مرآهم، شعور أخفته كل ابتسامة ممزوجة بالحزن حاولوا إظهارها لنا، لكن وجوههم الشاحبة وعيونهم التي لم تجف بعد من الدموع لم تخفِ هذا الوجع الذي ينخر قلوبهم.

يصعب عليك حفظ وتذكر أسماء الشهداء أو الناجين لكثرة أعدادهم أمامك، فمن البداية دونت أسماءهم على ورقة، فحفظ كل هذا العدد يحتاج إلى وقت طويل.

في الغرفة ذاتها تجلس الطفلة نور (12 عامًا) التي كانت مستيقظة لحظة إلقاء الصواريخ عليهم  وشقيقاتها: نرمين (10 أعوام)، وريم (8 أعوام) ولمى (5 أعوام)، وسالم (3 أعوام) الذي لا يعرف حقيقة ما جرى لكنه يفتقد والديه، فبعد أكثر من شهر ونصف لم يجد إجابة عن سؤاله: "وين بابا؟".

هؤلاء الأطفال الخمسة فقدوا والدهم محمد (39 عامًا) وأمهم يسرى (38 عامًا) وشقيقهم وسيم (14 عامًا) ومعاذ (7 أعوام).

لو قُدِّر لعقارب الساعة أن تعود للخلف لأعادها أولئك الأطفال الذين عاشوا حدثًا "مرعبًا"، وهو يتكرّر كلّ يوم في ذاكرتهم لا يستطيعون الهرب منه.. صوت الصواريخ يئز في أذن نور وشقيقاتها، تفترش تلك "الجريمة" التي جعلتها ترى المسافة الحقيقية بينها وبين الموت ذاكرتها، لا يزال صدى صوت الصواريخ الإسرائيلية التي انهالت عليهم تتردد في أذنيها، لا تفارقها حتى وهي على سرير نومها.

استشهد في القصف كذلك رسمي (45 عامًا) وزوجته الثانية مريم (34 عامًا) التي استشهدت مع طفليها: فراس (عام ونصف) وسالم (عامان ونصف)، وشقيقهما من والدهما مهند (13 عاما).

فيما كان أبناء الشهيد "رسمي" الناجون من القصف يحضرون حديثنا، وهم ضياء (10 أعوام)، ويوسف (8 أعوام)، وفهد (6 أعوام)، وفوزي (4 أعوام) ورسمية (عامان)، والرضيعة فرح (شهران)، بالإضافة لمحمد (19 عاما) وسجى (17 عاما) اللذين لم يتواجدا بالبيت لحظة وصولنا.

تفاصيل "المجزرة"

بقيت لحظات وتدق عقارب الساعة عند منتصف الليل، لحظات وسيأتي فجر جديد، أحلام نامت مع أطفال العائلة في تلك الليلة، توارت وراء الأفق على أمل أن تشرق مع شمس يوم جديد، وكأن عاصفة الوداع تغير على عائلة "أبو ملحوس"، أصوات الصواريخ في الخارج تثير غبار القلق في قلب نور وهي تحدث والدتها: "أنا خايفة كتير يمّا من صوت الصواريخ والقصف"، احتفظت الأم بصمتها وهدأت من روع ابنتها المرتجفة.

ما أن تذكرت نور تلك التفاصيل حتى دغدغت مشاعرها، وقبل أن تتوقف عن إكمال التفاصيل المرعبة، قالت ما بقي عالقا في ذاكرتها: "بعد أن تلت عليّ أمي آيات من القرآن وذهبت، بقيت مستيقظة بغرفتي مع إخوتي النائمين حولي، لا أعرف النوم، حتى سمعت صوت الصواريخ تسقط علينا كالمطر، كان مشهدا مرعبا لا أستطيع وصفه، لم أر شيئًا إلا أنني قُذفت إلى الخارج ونُقلت بسيارات الإسعاف (..) لم أعِ ما حصل إلا عندما ذهبت لثلاجات الموتى بالمشفى ووجدت إخوتي ووالدي شهداء".

لحظة القصف يجتاح القلق قلب الجدة، حتى خرجت عن صمتها تحدث نفسها: "يا ساتر يا رب، بس ما يكون صاير لأولادي رسمي ومحمد أي شيء".

مرت دقائق بطيئة على قلبها تريد وضع نقطة النهاية لهذا القلق، يركض الطفل ضياء باتجاه بيت جدته الذي يبعد نحو كيلومتر عن البيتين المقصوفين ينادي عليها من بعيد: "جدتي جدتي.. قصفونااا"، لكنها لم تسمع صوته حتى وصلها بعد أن التقط أنفاسه بصوت يرتجف، خائف بالكاد استطاع إخراج هذه الكلمات من شفتيه الراجفتين: "الطيارة ضربتنا.. ومتنا كلنا.. عمي محمد الدم سايل منه، وأبويا رسمي مش عارفين وينه!".

كأن الدم تجمد في عروقها أمام هول الصدمة، حبست أنفاسها، اهتز قلبها ورجّت دقاته، مطلقة العنان لدموعها تسحّ على وجنتيها.

صوت الجدة "أبو ملحوس" بدا كجمرة أذابها الفراق، دغدغت الدموع مشاعرها وكأن الحدث الذي مر عليه أكثر من شهر ونصف وقع بالأمس: "كانت أجواء القصف صعبة، فجأة سمعت صوت أربعة صواريخ سقطت قريبة منا اهتزت على إثرها جدران منزلي".

ضياء الذي يجلس بجوار جدته، لا يزال يعيش على وقع الصدمة ويتذكر تلك التفاصيل المرعبة، بملامح خائفة وكأنه لم يفق من هول ما جرى: "كنت جالسا مع شقيقي مهند فجأة رأيت وميضا كبيرا، وسمعت صوت الصواريخ، بعد عدة دقائق ناديت على أخي فلم يسمعني، فقمت بالحفر على المكان الذي كنا نجلس فيه فوجدته وحفرت أكثر، وأخرجته من تحت التراب".

ظل ضياء يحاول إيقاظ شقيقه الذي لم يستجب لكل نداءاته، يشده نحوه، يهز رأسه، لكنه فشل في ذلك، فقد كان يسبح في بركة من الدماء.. ثم انتقل لبضعة أمتار ليجد عمه محمد ممددًا أمامه، وأشقاءه وأبناء عمه ما بين شهيد وجريح، مشهد لن تمحوه الأيام ولا السنين من ذاكرة هذا الطفل، لن تنسيه كرة القدم التي كان يلهو بها مع أطفال الحي أمام المنزل لحظة وصولنا، ما حدث.

تسللت شمس الحزن في صباح اليوم التالي للمجزرة قلب المسنة "أم رسمي"، لم تتخيل هذه الجدة يومًا أن تأتي اللحظة وتستيقظ دون ابنيها، فقد اختفى ظلهما من بيتها عندما كانا يزورانها، بل من الحياة، كل شيء بات من الذكريات، لم يبقَ إلا صدى أصواتهم.

تطل كلمات الجدة من رحم الألم موجوعة مرة أخرى: "هذا احتلال مجرم، أبنائي كانوا نائمين، لقد قتلهم وأحفادي بدم بارد".

احتست جرعة من صمت، ثم كسرت هذا السكوت: "لا أعرف كيف أستطيع الحديث إليك، إلى الآن لا أصدق ما حدث، أشعر أنني في حلم لم أفق منه".

حياة متجمدة

"ماذا تعني الحياة عندما أفقد أبنائي وأحفادي وأنا كبيرة بالسن؟".. تشير نحو الأطفال بصوتها المكسور بوجع الفقد وعيونها التي لم تأذن لها بسكب بدموعها رغم ما تخفيفه من حزن بدا واضحا خلف نظراتها المتألمة: "سأربي هؤلاء الأطفال إلى أن يكبروا كي يرفعوا معنوياتي".

وحدها الدموع هي التي تخفف حزنها مساءً والأطفال نيام؛ لتخفف عنها، وكأنها أصبحت ضيفها الدائم وملاذها حين تجوب الذكريات عقلها.

تروي تعرجات وجه هذه السبعينية التي حنى العمر ظهرها حكايةً مغلفةً بالمعاناةِ والألم، فتقول ولا يظهر من نقابها الأسود التي ترتديه بالطريقة البدوية سوى عينيها المتعبتين: "فقدت نجلَيَّ الوحيدين رسمي ومحمد، زوجي توفي قبل ثلاثة أعوام، ولم يبق إلا أنا لهؤلاء الأطفال، فصرت مجبورة بالسهر على أحوالهم ورعايتهم بالمأكل والملبس وما أستطيع فعله".

حضرت حديثنا ابنتها "أم معتز" (متزوجة جاءت لزيارتها) تحاول أن تأتي كل مدة لبيت والدتها المسنة لمساعدتها، تختصر حديثها بالقول: "ماذا نفعل!؟.. ما ذنب هؤلاء الأطفال ليفقدوا آباءهم؟ ما حدث مجزرة وجريمة بشعة ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحقنا".

"الجرح عميق، نحاول ترميمه!".. بهذه الكلمات مع تنهيدة ساخنة خرجت من حنجرتها، تتحدث عن مائة حكاية بداخلها، رغم أن نقابها الأسود يحجب ملامح وجهها قائلة: "زارني أخي محمد قبل مدة، ووقف بجانب أرضي يرفع يديه للسماء داعيًا: "يا رب توعدني ببيت"، ليغنيه عن البيت المسقوف بـ"الزينكو".

ترد على ادعاء الاحتلال بأن جيشه "أخطأ الهدف حينما قصف منزل العائلة"، بالقول: "نحن نعرف أن (إسرائيل) التي تمتلك منظومة تكنولوجيا متطورة لا تخطئ أهدافها، وادعاءاتهم كاذبة فهذه الجريمة كانت متعمدة".

جروح لم تجف

قميص وسروال أزرق اللون، لعبة حمراء، الطفلة نرمين السواركة (9 أعوام) تتمدد على السرير.. مشهد مبهج قبل أن يذهب نظرك إلى أسفل قدميها الملفوفتين بشاش أبيض، نجت بأعجوبة هي وأشقتها الصغار من القصف المميت.

 لم تتذكر نرمين سوى مشهدين الأول القبلة التي طبعتها والدتها على جبينها عندما خلدت إلى النوم، والثانية لحظة اسعافها من بين الردم والتراب إلى المشفى.

فما أصعب الحرب حينما تقتل وتشرد الأبرياء وتيتم الأطفال، قاسية تلك الأيام التي ستبحث فيها نرمين عن والديها عند استلام شهادة نهاية العام الدراسي، ستنظر إلى كل فتاة تلتقط صورة تذكارية مع والدها، لكنها ستواسي نفسها بدموعها وبعض الذكريات الحزينة وتعود لمنزلها تبكي تلك المجزرة التي حرمتها من فرحة يتمناها أي طفل في العالم، فأحيانا تكون مراسم الفرح أصعب من الحزن ذاته.

الآن تساعد بعض المراكز التعليمية والترفيهية في تنظيم أنشطة لا شغال الأطفال باللعب والدراسة وتعويضهم عما فقدوه، لكن هل هناك ما يمكن أن يعيد لهم آبائهم!؟.

فرحة محترقة .. وتشرد!

بحذر يمسك الشاب محمد أبو عمرة يد عروسته مروة؛ يسير بها  على حافة حفرة ردم  بعمق ستة أمتار على أنقاض منزله المدمر، مشهد أعاده إلى الوراء قليلا لما قبل شهر حينما زفت إليه عروسته في فرحة لم تدم، الأحبة الذين كانوا يلتفون حولهم يومها على وقع أهازيج الفرح.. اليوم يلتفون حولهم ولكن لمواساتهم في مصابهم والتخفيف عنهم بعد أن أصبحت العائلة المكونة من نحو 20 فردا مشردة بدون مأوى، يمسحون دموعهم بجانب الردم.

وصلنا الساعة الثانية ظهرًا؛ الشمس تتوسط قلب السماء، يبحث محمد وعروسته فوق الردم وبين حطام منزله الواقع شرق القرارة بمحافظة خان يونس على بعد 500 متر من سياج الاحتلال الفاصل، عن شيء متبقٍ من شقة لم يهنأ العروسان فيها سوى 30 يومًا، إلى أن عثرا على بدلة حمراء محترقة، تذكره بمراسم زفافه ومعاناته في تجهيز شقته بأبهى صورة، أبت طائرات الاحتلال إلا أن تفسد تلك الفرحة وتلقي ثلاثة صواريخ حربية دمرت منزلهم.

الأوراق الخضراء الباقية على غصون بعض الأشجار الناجية من القصف جامدة بلا شعور .. حجارة المنزل المدمرة تبكي ذكريات العائلة .. أوراق وكتب مدرسية ممزقة، أثاث وملابس محترقة، الأضرار الكبيرة في المنزل المجاور التي شوهت لونه الأبيض وافترسته،  كلها شاهدة على هذه المأساة.

يسند محمد نفسه على مكعب اسمنتي فوق الردم، ممسكا "الفستان الأحمر" المحترق فكان الشيء الوحيد الذي استطاع إخراجه من بين الركام،  بجانبه تجلس عروسته، مطلقًا العنان لكلماته المحترقة كذلك بالغضب وهو يرفع الفستان بيديه للأعلى: "هدا اللي ضل من كل الدار".

يتجه بنظره نحو الأسفل، يتبعها بإشارة من إصبعه..  بدت ملامح الحزن تكسو وجهه، ولا يزال يجلس على حافة الحفرة التي سببها القصف: "هنا عفش البيت .. كله راح ".

الحسرة على واقع ما ألم به حاضرة في كلامه: "وهذه تسريحة  وأثاث غرفة النوم تكسرت .. لم يبق شيء".

 حتى تفاصيل الوجع هنا صعبة، يقلب كفيه، صوته اختفى بين ثنايا الوجع والقهر: "نجلس الآن فوق التراب، لا ذهب ولا مال، شقى  العمر احترق بلا عودة (...) محل صيانة الدراجة النارية، ودراجتي الخاصة، خرجنا بدون شيء".

في لحظات صمت، ينظر العروسان إلى أثاثهما وبيتهما المدمر الممتد بين الأراضي الزراعية بخان يونس، لا يصدقان ما يشاهدانه لولا الدمار الذي لحق بالمنزل، وكأنهما يعيشان حلمًا، لم تكتمل فرحتهما بل إنها انتهت قبل أن تبدأ، تأخذه الذاكرة إلى لحظات تجهيز شقته: "ادخرت المال بصعوبة لمدة عامين، كنت أقوم بتجهيزها، واشتريت كل شيء يلزم المنزل".

ينتزع ضحكة من بين أنياب الألم، لكن الابتسامة هنا أصعب من الحزن ذاته: " الحمد لله .. طلعنا ببدلة محروقة".

فوق الركام على الجهة الأخرى تتجول والدته أم صابر على أنقاض المنزل، تحاول البحث عن شيء هي الأخرى، تقلب الحجارة، تنظر تحت الردم، لكن دون جدوى، رفعت رأسها للأعلى وفردت ذراعيها، امتزجت كلماتها بالقهر رسمت ملامحها فصلا من فصول الحسرة؛  تقول: "يا عالم وين بدنا نروح؟ .. جاي برد علينا".

تأخذنا بجولة لمعاينة الأضرار، يقابلها قطع بلاستيكية زرقاء مكسرة من بقايا خزان مائي لا زالت غاضبة وهي تقول "كنا نخزن فيه الطَحِين".

سكنت للحظات ثم اغرورقت عيناها بالدموع، قبل أن تضيف: "احنا بنخزن من السنة للسنة، الحين بدنا ناكل رمل (..) بيتي هدم في خمس دقائق".

إلى الأمام في أعلى الردم، تجلس الطفلة بتول (10 أعوام) تسند رأسها بيدها التي تضعها على خدها تتأمل البيت، لا تصدق ما جرى، تنظر إلى كتبها المدرسية الممزقة المتطايرة على بقايا منزل، بنظرة حادة تجمعت الدموع على حوافها؛ ثم قالت: "لم أذهب اليوم للمدرسة، فليس لدي كتب ولا حقيبة ولا ملابس".

تعيش الطفلة على وقع ما شاهدته، يتكرر مشهد تدمير البيت في ذاكرته وكذلك في حديثها: "كنت نائمة، فجأة سمعت أصوات تيقظي: "اطلعوا .. اطلعوا بدهم يقصفوا"، رأيت كل شيء بعيني".

"مهلة خمس دقائق"..

بقربها، يأخذنا والده، صاحب المنزل حمود أبو عمرة بحديثه إلى لحظات ما قبل القصف، يعود إلى مهلة الخمس دقائق التي تشوهت معالم البيت بعدها، وسوته طائرات الاحتلال بالأرض وأصبح أثرا بعد عين.

الليل يلقي بستاره الأسود على القرارة الساعة الحادية عشرة وعشرين دقيقة، (13 نوفمبر/ تشرين ثاني 2019) يوشك أن يطوي نفسه، الاحتلال أبى إلا أن يرتكب جريمة جديدة قبل أن يرحل اليوم، أبو صابر يتلقى اتصالا هاتفيا، المتحدث بلغة عربية "مكسرة"، يقول: "المخابرات الإسرائيلية تحدثك .. نمهلك خمس دقائق لإخلاء المنزل وتبليغ الجيران".

يعترض أبو صابر الذي أيقظه الاتصال من النوم: "ليش بدك تضرب البيت"، يرد ضابط الاحتلال: "ما تسألش هدا السؤال".

 دقائق صعبة عاشتها العائلة المكونة من نحو 20 فردًا، يسابق "أبو صابر" الوقت كان يخوض صراعا آخر مع الخمس دقائق، لإنقاذ جميع الأرواح من بيته وأبناء الجيران، ينادي على البيت الملاصق له من الجهة الشمالية، ومن ثم على البيت الآخر الذي يبعد عنه عشرين مترا من الجهة الشرقية لإخلاء منازلهم، بعد أن أيقظ زوجته وأبناءه وزوجاتهم وأحفاده.

تفترش تلك اللحظات، حديثه، وهو يقف على بقايا منزله: "بعد أن ابتعدنا عن البيت، قال ضابط الاحتلال: لا تعود إلى البيت .. بعد عشر دقائق سنقصف البيت، ثم قال مستهزئا: "الطائرة ذهبت لجلب حمل ثقيل لمنزلك".

يفرد أبو صابر كفيه، صوته اختفى بين ثنايا الوجع والقهر: "حينها التزمت الصمت، فليس في اليد حيلة، الآن نجلس فوق تراب بيتنا المدمر، لكنني سأعيد بناءه مرة أخرى".

تحد وتشبث بالأرض

 والده أبو صابر رجل خمسيني، لكنك حين تراه تعطيه سنا أكبر من عمره بعشر سنوات أخريات، يغزو الشعر الأبيض رأسه ولحيته، تجاعيد وجهه وملامحه الداكنة، تروي حكاية رجل عانى من قصف بيته عدة مرات، أكلت أشعة الشمس من لون بشرة الرجل المتشبث بتربية الأغنام والطيور وفي الزراعة  حتى أصبحت داكنة من لهيب الشمس الحارقة بالمناطق المحاذية للسياج الفاصل.

بجانب مدخل البيت، ذهب أبو صابر الذي يرتدي عباءة بنية وجلس واضعا أمامه براد "الشاي"، أصر على أن نحتسيه، في تحد وصبر لم نجد له وصفًا، يتأمل ببيته المدمر، لا زال لا يصدق ما يعيشه: "لا أعرف ماذا سأفعل مع قدوم فصل الشتاء، لا أملك مأوى ولا مشربا، البيت مكون من أربع شقق جميعها تدمرت".

يشير إلى أقفاص الحيوانات والطيور التي قتلتها صواريخ الاحتلال، احتسى جرعة من صمت، قبل أن تكمل زوجته نيابة عنه: "حتى الحيوانات لم ترحم، قتل حمارنا، والأغنام والخراف الستة التي كنا نربيها ونحلب منها، كذلك نحو 60 حمامة لم تسلم من العدوان الغاشم الذي تعرضنا له".

تشرد وركام

بعد شهر ونصف من القصف التي تتبعنا تفاصيلها لحظة القصف والتشرد وبعدها، زرنا العم "أبو صابر" مرة أخرى .. طوت السيارة الطريق بعد ساعتين من الانطلاق حتى وصلنا بيت "أبو عمرة"؛ عقارب الساعة تحط رحالها عند الرابعة والنصف مساءً، قرص الشمس يبدأ بالرحيل وسحب أشعته تدريجيًا عن منطقة "القرارة" شرق محافظة خان يونس القريبة من السياج الفاصل.

غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها عن أربعة أمتار مربعة، يرفع هامتها سقف من ألواح "الصفيح"، يغطي جوانها حجارة قديمة وبعض الألواح، أنشأها أبو صابر من بقايا الدمار الذي حل بمنزله، فيها تنام الشقيقتان نرمين (26 عاما) واعتماد (16 عاما) ووالدتهما، أصبح هذا المكان المسمى عنوة "غرفة" مكانا للنوم والطبخ والأكل للعائلة، يدخل هواء الشتاء البارد إليه من الفتحات والثقوب.

 ما أن تلج باب الغرفة المغطى بالنايلون، ويتجه نظرك للأسفل ستجد بعض الأمتعة القليلة التي نجت من القصف، وبقيت لباسا لهاتين الشقيقتين، أما والديهن فلم يجدا أي قطعة ملابسة لم تتمزق من الصواريخ.

قبل يومين عانت العائلة من منخفض جوي ضرب قطاع غزة، تسابقت أم صابر وأبنائها خلال المنخفض مع المطر، لكنه سباق من نوع مختلف، مع غزارة الأمطار كانوا يضعون  أوانٍ تحت كل ثقب في السقف، حتى لا تتدفّق المياه أكثر داخل الغرف، وحينما تمتلئ يسكبونها خارج المنزل، ويعاودون الكَرَّة تلو الأخرى، وهكذا أمضت العائلة ثلاثة أيام أخرى من الصراع مع البرد.

إلى الأمام بعدة أمتار تجد أمامك غرفة  عن ثلاثة أمتار مربعة يغطي النايلون الأبيض جوانبها، هي الأخرى صنعها أبو صابر من بقايا الدمار.

على أنقاض بيته المدمر، ظل أبو صابر وعائلته مشردين في منطقة حدودية زراعية البيوت فيها قليلة، لا يعرف إلى أين يذهب!؟، فأنشأ الغرفتين من الصفيح، يعيش التشرد بين الدمار، شعور صعب أن يستيقظ كل يوم ويرى حلما بناه حجرا حجر على مدار 30 عاما مدمرا ومطمورا بحفرة عميقة شاهدة على تشرد العائلة.

مع دمار البيت عاد أبو صابر إلى حياة البادية التي عاشها مع عائلته قبل 55 عاما في الخيام وبيوت الصفيح. 

نظرات عينه تتألم خلف أنات الوجع، تلك الجروح في قلبه لم تلتئم بعد، رسمت ملامح وجهه شحوبا وكأن الحياة تجمدت هناك .. عند لحظة القصف، تبخرت الذاكرة من كل شيء وبقيت أصوات الصواريخ تعيد له المشهد ذاته مرة تلو الأخرى.

جلس أبو صابر وبقربه زوجته على سقف بيته المدمر بعد أن ساوته الطائرات بالأرض، ثم حرر كلمات حزينة تروي حكاية وجعه مع الحياة، قائلا بصوت يخنقه القهر، وملامح وجه شاحب يرسم صورة أخرى لحال هذه العائلة يشير بيده نحو غرفتي الصفيح بجانب المبني: "مر شهر ونصف على تشردنا وعيشنا في هذا الشتات، وتلك الغرف من الزينكو".

تلك التنهيدة التي خرجت من حنجرته تتكلم عن فصلا جديد من الوجع هنا: "لا أريد الهجرة عن بيتي، فلو خرجت من بيتي وخرج كل إنسان، أين سنذهب؟".

احتسى جرعة من صمت، ثم قبض يده ورفع صوته: "رغم كل المعاناة سأبقى ببيتي".

في قلب السماء تحلق طائرة حربية إسرائيلية بدون طيار فوقنا، ينظر إليها أبو صابر ويعلن أمامها تمسك ببيته مرة أخرى: "أنظر؛ ونحن تحت الطائرة لن أرحل من بيتي!".

ألقى الصمت بأوتاده على شفتي أبو صابر أسكنها برهة من الزمن يحدق  حوله وكأنه لا يصدق ما حل به من دمار، لا أحد يجيب سؤاله: "أين سأذهب؟".

حتى تفاصيل الحزن والوجع هنا مرهقة، يقول بصوت متماسك يخفي بين حروفه حزنا كبيرا لم يبح به: "لا يوجد لدينا حياة سوى هذا البيت، أنظر أمامي وأرى تعب ثلاثين عاما مهدوم، أنظر إليه فأتلم بداخلي، لكن لا يوجد  مكان آخر".

معاناة ومأساة يومية

أبو صابر الذي يرتدي نفس العباءة البنية التي كان يرتديها قبل شهر ونصف  يخرج ضحكة من بين أنياب الحزن بعد أن شد عباءته قائلا: "هذه العباءة ستدخل التاريخ"، ابنته اعتماد تدخل على حديثنا متحسرة على ملابسها: "كان لدي 16 ثوبا فلسطينيا .. الآن لم يتبق لي شيء!"، اختها نرمين التي ترتدي سترة بنية تنفجر بصوت غاضب: "الله بقول احنا البنات نلبس ملابس شباب"، أم صابر لم تجد شيئا تقوله سوى الحسرة: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، ينظر أبو صابر للأسف يمرر يده من الشمال لليمين للملابس الممزقة والمحروقة على الحجارة المدمرة بفعل القصف: "أنظر هذه ملابسنا ممزقة .. لم نخرج من القصف بأي شيء".

يرحل بصوته لمعاناته نتيجة المنخفض بلهجة عامية: "جمعت شوية ألواح زينكو (صفيح حديد) وعملت للأولاد مكان والبنات مكان، لعند ما أجى المنخفض وغرقنا".

خلف بيت أبو صابر طال الدمار منزل جاره الملاصق له ويدعى عصام نصار، أكلت الصواريخ واجهته الأمامية وأجزاء كبيرا منه أدت لرحيل نصار عن المنطقة وتشرده هو وعائلته، نهش الدمار كذلك منزلين آخرين مجاورين لهما، في هذه المنطقة الزراعية يعيش أبو صابر ويحيط به أربعة جيران، غادر ورحل الجميع وبقي هو وحيدا مشردا يعيش حسرة وتشردا على أنقاض منزله.

لم يتشرد أبو صابر وحده هنا، حتى الحمام الذي كان يحلق فوقنا، دون أن يهبط على الأرض، لم يجد عشه المدمر، ليبقى يحوم ويدور حول البيت طوال النهار إلى أن يأتي الليل ويهبط على سطح الجيران، "إيش ذنب هالطير يصير مشرد؟" .. تتساءل نرمين وهي تراقب حركة الطيور.

تقلب كفيها وتندب حالهم: "ذكرياتنا في البيت راحت".

والدها ينوب بالكلام: "أسست بيتا لأسرتي المكونة من 18 فردا، لكن اليوم أراه ردما أمامي".

(أم صابر) التي تضع يدها على خدها حائرة تتأمل بالدمار تخرج عن صمتها: "اليوم نموت أو نعيش فش حدا سائل فينا، بعد ما كانت خطوط المياه تصلنا على مدار الساعة، الآن نملأ البرميل كل ثلاثة أيام ونغسل الأواني والملابس على يدينا في هذا البرد".

ضياع الحصاد

على جانبي حفرة الركام التي يبلغ قطرها نحو 16 مترًا، تنبت بذور القمح هنا، كان يستعد أبو صابر لزراعة خمسة دونمات في الأراضي الزراعية شرق غزة، قبل أن تتناثر أطنان القمح الخمسة التي كان يخزنها في براميل بين الردم بفعل القصف فنبت الزرع هنا، وخسر الحصاد الذي كان ينتظره.

بعد ساعتين من جلوسنا .. السكون يفترش المكان، بدأ الليل يلقي ستاره الأسود على "القرارة"، إلا من صوت نباح الكلاب حول البيت الذي طال الهدم سوره الخارجي، داخل غرفته النايلون، يجلس أبو صابر ضاما قدميه بشكل مقص، على فرشة الممزقة بفعل الدمار، بجانبه موقد نار من الحطب حوله زوجته وبناته.

ابنته نرمين التي تعيش وطفلتها  مع والدها عاشت موقفًا مرعبًا قبل أيام تقول عن تفاصيله: "كانت الساعة التاسعة مساءً، خرجت من الغرفة مصطحبة طفلتي إلى دورة المياه في الخارج، فجأة وجدت ثعلبا أمامي، يكشر عن أنيابه ويهم بالانقضاض على طفلتي، شعرت  أنه يريد أن ينهش جسدها، فأمسكتها بين ذراعي وبدأت أصرخ على أهلي وأخوتي وسرعان ما هرب".

اختها اعتماد تعترف: "صرت أخاف أطلع على الدكانة بالليل".

أبو صابر بعد أن قام بغلي براد قهوة على موقد النار، لا يخفي ما يشعر به بلهجة عامية: "كويس أني عايش لليوم من كتر المأساة والحروب".

تغيرت حياة هذا الرجل بعد التشرد كثيرا، فبعد ما كان لديه بيت كبير، ومقعد عربي خارجي واسع، يتسع لكل الضيوف، اليوم الغرفتين الصغيرتين لا تتسع حتى لنوم أطفالهم، يقضي ساعات الشتاء الطويلة في هذه المنطقة التي أصبحت موشحة.

أربع مرات تعرض منزل أبو صابر للهدم، عام 2008 قصف بقذيفة من دبابة وتشرد 30 يوما، وكان بيته غير صالح للسكن، وعام 2012 تعرض لأضرار جزئية وتشرد 21 يوما، وعام 2014م خلال عدوان الاحتلال على غزة تعرض لأضرار كبيرة وشرد 51 يوما، يقول أبو صابر إنه لم يحصل على تعويض من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" وأن عملية الإعمار تمت على نفقته.

حضرنا ابنه عيد (24 عاما)، ولهذا الشاب حكاية فهو يعمل منذ خمسة أعوام في بيع الخضار ويحصل على أجرة يومية لا تزيد عن خمسة شواكل، على مدار الخمسة أعوام استطاع بناء شقته وتجهيزها ووضع الأثاث فيها، وكان على وشك أن يقعد قرانها قبل أن تقصف، يتحسر على حاله: "ماذا أقول ..!؟ هل يكفي أن أقول أنني أستيقظ كل يوم بعدما عدت من الصفر وأبكي على الردم".

حرقت صواريخ الاحتلال فرحة العروسين محمد ومروة، وقتلت فرحة عيد قبل أن تبدأ، وافترست المنزل للمرة الرابعة، ولا زال  أبو صابر يتحدى قسوة الظروف والاحتلال. 

أرقام وإحصائيات

حسب إحصائية خاصة حصلنا عليها من وزارة الأشغال والإسكان الفلسطينية، فإن 207 وحدات سكنية تعرضت للهدم الكلي نتيجة جولات العدوان المتقطعة التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة خلال عامي (2018، 2019)،  وأن 50 وحدة سكنية تعرضت لضرر جزئي غير صالح للسكن، فيما تعرضت 2355 وحدة سكنية لأضرار جزئية.

الأرقام السابقة شاهدة على مأسي التشرد، لعائلات لم يتبق من ذكرياتها سوى حجارة متناثرة تبكي تشردها، على انقاض المنازل المدمرة أو في بيوت الإيجار ولا زالت تنتظر الإعمار، والذي سيستغرق عدة سنوات.

أكثر الأماكن أمنًا

دقات قلب أماني تضطرب؛ بعد قيام بعض الجيران بإخلاء بيوتهم بالمنطقة الغربية لـ "بيت لاهيا" شمال غرب القطاع، تحديدا قرب "المدرسة الأمريكية" سابقا، كونها بعيدة عن الأحياء المكتظة، تفصح عما بداخلها لزوجها محمد المدهون: "بدنا نطلع من المنطقة" كأنه حدس أو استشعار داخلي باغت تفكيرها، لكنه طمأنها: "بيتنا هو أفضل مكان آمن لنا".

أطفأ كلامه لهيب توترها المشتعل منذ الصباح .. "خلص بدي أروح أنام"، وقبل أن تخلد للنوم بدت سعيدة بقرب وضع جنينها "أيمن" كان مقررا إبصاره النور بعد أسبوعين إذ دخلت أمه في الشهر التاسع.

تحت أصوات القصف الإسرائيلي، وصوت طائرات الاستطلاع "المزعج "خلدت أماني وجنينها في غفوة قصيرة عصر الأحد الخامس من مايو/ أيار 2019م، وبجوارها نام أطفالها الثلاثة أكرم (5 سنوات)، ومحمود (4 سنوات) وفاطمة (عامان ونصف).

هذا المنزل الواسع الممتد على مساحة 500 متر يضم ثلاثة بيوت للأب عبد الرحيم المدهون (61 عاما) ويعش معه ابنه عبد الله (22 عاما) وبيتين لأولاده المتزوجين محمد وأحمد.

قبل أن يسقي محمد طفله أكرم كأسا من الماء، وقبل أن يضع الكأس على الطاولة سمع صوت الصواريخ ولم ير شيئا سوى غبار ولهيب أحمر، سقوف وجدران تنهار فوق رؤوسنا.

 بعد دقيقتين انقشع الغبار تدريجيا، زحف محمد  وأكرم من بين ممر ضيق بين الجدران لا يعرف كيف نجا من هذه الجريمة، وقد كسى لون الرماد شعرهم وملابسهم ووجههم، استطاع إخراج طفله من بين الركام، ليجد معظم المنزل مدمرا، بدأ بتفقد ما بقي في المنزل على قيد الحياة. وصلت طواقم الدفاع المدني المكان، يكمل المدهون وعينيه تبرقان بالدموع لم يأذن لها أن تسدل حزنها على وجنتيه: "أشرت لمكان غرفة نوم زوجتي وأطفالي فاطمة ومحمود، بعدما انهارت عليهم جدران البيت على شكل طبقات (..) بدأنا برفع الحجارة وتلك الجدران".

 من بين أنياب الموت، ومن تحت الركام وبين الرماد، انتشلت فرق الانقاذ محمود وفاطمة، ينبضان بالحياة، بحالة خوف شديد، يرتجفان، يبكيان، مصابان بصدمة، نقلا إلى المشفى للاطمئنان على صحتهما، لكن كانت أماني تحت الردم وقد اخترقت شظايا الصواريخ بطنها فقتلها وقتلت جنينها "أيمن" قبل أن يبصر الحياة، تمنت أن تره، وتسمع صوته، تداعبه، لكنها رحلت معه.

 إصابات وجثث حجارة متناثرة في كل مكان، مشهد الدمار كبيرا، يواصل محمد وفرق الانقاذ تفقد "الأحياء"، رفع ردما آخر فوجد شقيقه "عبد الله" جثة هامدة تغطيه الدماء وفوقه أكوام الحجارة، تدمرت بقالة والده الذي يعاني من مرض القلب وأصبحت أثرا بعد عين واستشهد والده وهو يحتضه حفيدته التي نجت، كان همهم حماية الطفلة التي نجت بأعجوبة.

صهرهم فادي بدران أصابته شظايا الصواريخ برأسه، لا يستوعب محمد ما حدث يومها وهو يعيد سرد تلك التفاصيل بعد شهور من الحادثة: "رأيت فادي لحظة الاستهداف وهو يحمل طفلته المصابة اعتقدت أنه يحاول اسعافها وكانت تنزف من منطقة رأسها، إلا أنني تفاجأت باستشهاده في المشفى وقد أخبرت أن حالته تدهورت نتيجة إصابته بشظايا الصواريخ بمنطقة حساسة برأسه".

 في لحظة كانت هذه العائلة تنعم بالأمن، تنبض بالحياة، بعضهم كان جالسا، وآخرون نائمون، فجأة اختلف المشهد بفعل صاروخ إسرائيلي من الحياة للموت، كل شيء تغير، اجتاح الصاروخ المنزل وأحاله ركاما، أزهق أرواح الأبرياء الأمنين في منازلهم، لا يعرف حدودا للطفولة ولا محرمات للإنسانية.

وحيد .. وثلاثة شهداء

 في قصة أخرى، لم تهدأ  رغدة أبو الجديان (40 عامًا) من التفكير بـ "حيرة وتردد" مع زوجها طلال (46 عامًا) بمغادرة شقتهم ببرج رقم (12) بمدينة الشيخ زايد السكنية شمال القطاع نتيجة القصف الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، أضرم الخوف ناره في قلب زوجها متخذا قرارا يود مشاورة زوجته فيه: "إيش رأيك نطلع من المنطقة .. بلاش يصير قصف".

في الأثناء .. جاء من بعيد طفلهم عبد الرحمن (11 عامًا)، يلح عليهما الذهاب لبيت عمه بمعسكر جباليا: "بدي أروح على بيت عمي"؛ إلا أن الزوجة حسمت رأيا مخالفًا: "وين ما بدك تروح أجلك بجيك .. سواء طلعنا من البيت أو ضلينا فيه"؛ مستذكرة حادثة استشهاد أبناء عمتها قبل سنوات حينما انتقلوا من بيتهم لبيت آخر استشهدوا فيه.

المشهد الأخير .. أحداث دراماتيكية في قطاع غزة، طائرات إسرائيلية تواصل قصفها العنيف، الأحد  (5 مايو/ أيار 2019م)، عقارب الساعة تحط رحالها عند الخامسة عصرًا، استيقظ محمد (25 عاما) من نومه، مفزوعا من صوت شقيقه عبد الرحمن مع والدته وهما يجلسان على شاشة التلفاز يشاهدان استهداف منزل عائلة "المدهون" بمنطقة بيت لاهيا استشهد عدد من أفرادها، تترحم على شهداء العائلة معبرة عن حزنها العميق: "هدول اليهود ما عندهمش رحمة .. هيك بقصفوا الناس وهم آمنين في بيوتهم؟".

البرج رقم "12"

مرت ساعة أخرى حزينة على عائلة أبو الجديان بعدما آلات إليه الأمور في منزل عائلة "المدهون"، لا يعرفون ما تخبئ لهم الدقائق والساعات القادمة، وأن برجهم السكني تحت مجهر الطائرات الإسرائيلية، الساعة السادسة طلبت الأم من ابنها محمد الذهاب لمنزل شقيقته المتزوجة لإيصال بعض الأغراض لشهر رمضان، وقبل أن يغادر أوصته: "الوضع ما بطمنش .. لا تتأخر".

مكث محمد ساعة عند شقيقته وفي طريق عودته اتصلت به والدته وكان قد اقترب من برج سكنه، تطلب منه الإسراع، دخل محمد برج "12"، و عند الطابق الثالث صادف جاره، استمر حديثها وعقارب الساعة تقترب من الثامنة والنصف لبضع دقائق، وقبل أن يصعد محمد على شقته في الطابق الخامس، حدث انفجار هز البرج والمنطقة وارتج جسده لم ير إلا وميضا  أحمر، ارتطم جسده بالحائط، تطاير الزجاج عليه، تغير شكله بفعل الغبار.

كان صوت الانفجار كبيرا، بعد انقشاع الغبار، وجد محمد الجيران ينزلون بسرعة من منازلهم من هول الانفجار فنزل معهم ليرى ماذا يحدث.

يستعيد المشهد وبدى متماسكا يكتم ما يشعر به من وجع ومأساة من أمام قبري العائلة: "حينما وصلت الطابق الرابع وجدت جيراننا يخرجون احياء، صدمت رغم أن الطابق الخامس (منزله) سقط بكامله عليهم بفعل الانفجار وأخرجت أهلي أشلاء من بين الركام".

في غزة ما  أن تسمع صوت صاروخ يسقط من السماء تجاه الأرض فحتما هناك أحلام ستموت وبيوت ستدمر ومنطقة ستشوه، وأناس سترحل إلى السماء .. لم يعد أهل غزة يقوون على تحمل تكاليف ومأسي الحرب المدمرة، فالحصار نهش جميع مجالات الحياة على مدار ثلاثة عشر عاما، قصص عائلة أبو ملحوس وأبو عمرة أبو الجديان تجسد ما عاشته آلاف العائلات الغزية بسبب القصف والدمار الذي طال كل شيء.