غزة - قدس الإخبارية: بعد مرور أشهرٍ على اغتيال القيادي في كتائب القسام صلاح شحادة بمجزرة “حي الدرج” في غزة (22 تموز 2002) والتي أدت لاستشهاد 21 مواطناً جُلهم من الأطفال، انشغلت وسائل الإعلام العبرية باستذكار قريب للإنجازات العسكرية في مجزرة جنين وإبعاد 39 مقاوماً من بيت لحم.
بعدها اتخذت انتفاضة الأقصى منعطفاً آخر وبدأ الاحتلال الإسرائيلي بفرض هيمنته على المنطقة، على شكل صورة هدوء يعود فيها المواطنون بالضفة وغزة إلى انشغالاتهم الحياتية، وفي التفاصيل يستمر مسلسل الاغتيالات والاستهداف الإسرائيلي للعُزّل والمقاومين.
على بسطة خضار وسط سوق بيت لحم القديم، يقف الشيخ أبو نادر عزمي هليِّل وعلى جانبه نجله نائل (23 عاماً) الذي غالباً ما يتولّى المهام الأكثر جهداً، ولا يبرح العمل سوى في أوقات الصلاة بالمسجد، أو تلبيةً لرفاقه الذين قليلاً ما كانوا يظهرون.
في ظل أجواء التوتر المُغلف بالهدوء، كان يدرك أبو نادر أن خروج نجله وغيابه في كثير من الأوقات كان مع رفاقه في المقاومة، خاصة أنه منذ الفترة الأولى شعر بانخراط نائل معهم ولكن دون أن يعترض طريقه، قناعةً بصواب ومشروعية ما يرمي إليه نائل، وإصراره المستمر، وحرصه على التكتم عن طبيعة ما يقوم به.
في آخر يومين له بالمنزل، لم يبدو على نائل حين كان يتنكر بزي المستوطنين مرتدياً قبعة اليهود الصغيرة “الكيباه”، سوى مزاحه أمام أشقائه وشقيقاته، قبل أن يستأذن والده في هذا اليوم بترك البسطة من أجل مشوار مهم على مدخل السوق، ومن ثَمّ مفاجأته بمكالمة هاتفية “أنه ذاهب إلى عملٍ في شمال فلسطين المحتلة”.
” مقتل 12 إسرائيلياً وإصابة 47 آخرين 8 منهم على الأقل في حالة خطيرة، بتفجير حافلة إسرائيلية في شارع مكسيكو بمدينة القدس المحتلة”، ضُجت وسائل الإعلام التي سرعان ما نشرت بيان كتائب القسام وتبنيها العملية، وإعلانه الرد الخامس على اغتيال القائد صلاح شحادة وشهداء حي الدرج.
جُن جنون وزير جيش الاحتلال أرييل شارون وأصدر قراراً باقتحام المحافظة وإلقاء القبض على الشهيد (علي علّان) قائد كتائب القسام في بيت لحم، سواء كان هو المسؤول عن إرسال العملية أم لا، لدرجة أن جاء شارون بنفسه ووقف في مستوطنة “جيلو” المقامة على مشارف المدينة، متفقدا قواته.
في تلك الساعة كان أبو نادر لا زال يوضّب الخضار على بسطته، يقول : فوجئت بقدوم بعض الجيران مسرعين نحوي يصيحون بتوتر “شكلك مش سامع شو بتحكي الأخبار؟؟ ابنك نائل سوى عملية استشهادية انقتل فيها إسرائيليين”.
يصف أبونادر ردة فعله حينما جاءه الخبر اليقين من عنصرين من الأجهزة الأمنية الفلسطينية، أنه رغم الغصّة والحزن الذي ملأ القلب على استشهاده، إلا أن خبر نجاح العملية في الرد على جرائم الاحتلال كان العزاء الذي عادلَ الشعور، وجعله يكبّر ويسجد لله شاكراً.
يكمل أبو نادر كيف عاد إلى المنزل في بلدة الخضر، صارخاً “يا أهل البيت بديش حد منكم يبكي، زغردن.. نائل استشهد”، لتسقط أم نادر مغشي عليها.
في التفاصيل.. رمى نائل هويته الشخصية – كرسالة تحدٍّ لإجراءات الاحتلال الأمنية – وصعد حافلة رقم (20) تتبع لشركة “إيجد” الإسرائيلية في ساعة ذروة تعج بالركاب الصهاينة، وما أن مرّت الحافلة من حي “كريات مناحيم” قرب مقر لشرطة الاحتلال جنوب القدس، كان نائل في مقدمة الحافلة، كبّر ثمّ فجّر حزام الناسف الذي لُفّ على خصره – بحسب أبو نادر.
أذكر كيف تجمهر الصحفيون أمام باب المنزل – أبو نادر مكملاً – كان من بينهم المراسل “الإسرائيلي” يوني بن مناحيم، وكان سؤال الأخير:
– نائل شاب قتل أطفالاً أبرياء، ما رأيك بفعلته؟
فكان الرد بـِ “أن نائل لم يقتل أطفالاً، ولكن جنوداً ساهموا بالتنكيل في الشعب الفلسطيني وضخامة الجثث تثبت ذلك، وإن كنت تقلق بالأطفال فجيشكم استهدفهم في مخيم جنين بقصف الطائرات والدبابات” فغيّر مناحيم مجرى الحديث على الفور”.
على إثر هذه المقابلة رد الرئيس الأمريكي جورج بوش في مقالٍ كتبه الصحفي توماس فريدمان بعنوان “حتى لا تكون هناك حرب بين حضارتينا”، يدين فيه العملية ويوصمها بالإرهابية.
وأظهر مقطع فيديو مؤخراً، يُظهر جثثاً كبيرة لقتلى “إسرائيليين” داخل أكياس سوداء، فيه توثيق للّحظات الأولى لما بعد العملية بشكل قريب ومن قلب المكان، لم يُبَث منذ حينها.
وفي اليوم التالي، أبو نادر مكملاً، داهمت قوات كبيرة المنزل الذي كنّا نسكنه بالإيجار واعتقلوني أنا وأبنائي، وقاموا بنسف المنزل، مضيفاً أن تم الإبقاء عليهم معتقلين لمدة 20 يوماً، ثم أُخلي سبيلهم.
الصدق .. سر الطهارة مقاومته
يصف مَن شاهد نائل في السوق بـِ: الخلوق، الصادق في التعامل، الأمين في البيع، قليل الكلام، رافقٌ بالحيوان، يُطعم القطط .. ويقول مَن رآه في المسجد: صوته جميل في التلاوة، رقيق القلب، حسن التعامل .. وفي المنزل يتفقون: مرح الروح، صاحب نكتة، حنون على شقيقاته، مطيعٌ لوالديه، كثير التبسّم وقليل العبوس.
تستذكر فاطمة (أم نادر) نجلها الشهيد قبلها بيوم “حين شاهدته يتقمّص شخصية مستوطن وشعرت أن خطباً يقوم به رغم طريقته في المزاح وهو يلبس قبعة اليهود الصغيرة، فقامت بمغافلته وألقت بها في القمامة كي تخرّب عليه خططه فلا يذهب إلى ما قد يلحق بنفسه الأذى، ولكن نائل لدى عودته سأل غرضه إلى أن وجده داخل الزبالة”.
تقول أُم نادر : لقد كان أحسن أولادي، منذ أن أنجبته في بيت لحم، إلى أن درس في مدارس بلدة دورا جنوب الخليل، وتربّى في مساجدها يتعلم القرآن وحفظ ما تيسر منه، وحتى آخر لحظة في حياته لم يرد كلمة في فمي.
وكان نائل انخرط خلال بداية شبابه في مجال حرفة الخراطة والقولبة في الخليل حاصلاً على شهادة في ذلك، ومن ثم انتقل إلى التجارة في الخضار التي كان يخفي خلالها سره في الجهاد، أبو نادر لافتا.
يصف أبو نادر: كان يفرحني مشهد المصلين داخل المسجد، يطلبونه كي يأم بهم وهو أصغرهم سناً، فإذا تلا عليهم من القرآن كان يبكي ويُبكّيهم، كان رقيق القلب، شديد التأثر بالأحداث.
وتلفت أم نادر إلى أنه لو كان بمقدورها أن ترده لفعلت، فقط كي يبقي بجانبها، ولكنّه كان يرفض التعاطي مع هذا الأمر، لم يكن يخلف وعده أبداً، صادق القول لا يكذب، وكان يجلس معنا في المنزل ليعظنا ويعطينا دروساً عن فلسفة الحياة والموت من الناحية الدينية.
تقول أم نادر، في الأعياد عُرف نائل بصلته للرحم، فكان إذا تردد أحدنا أو استصعب أجواء الشتاء أو إغلاق الطرق بفعل حواجز الاحتلال، يحسم أمره وينطلق وحده لابساً الحطة والعقال كي يزور أقاربه في الخليل.
حضور التفاصيل في الغياب
يصف نظمي شقيق الشهيد نائل الذي يصغره بخمس سنوات، حضوره في الذاكرة: “نحن لا نتذكره تذكراً، نحن نعيش معه كل يوم، فهو لا يغيب حتى نتذكره، لا نحلم به، ولكنه شعور صعب وصفه، فالافتقاد في كل التفاصيل، في كل موقف ولحظة تمر”.
في آخر فترة كنا مقربين من بعضنا بشكل كبير، نظمي مكملاً، ورغم قربه لم أشعر بالمطلق أنه سيقدم على عملٍ كالعملية التي قام بها، المؤثر فعلاً أن علاقتنا كانت آخذةً بتزايد قبل رحيله المفاجئ.
ويروي نظمي لـِ “قدس الإخبارية”: لقد كنا ونحن فتية نتدرب رياضة المصارعة بنادي في مدينة بيت لحم، ملتزمين سوياً، ذكريات كثيرة تتزاحم في العقل عن مرحلتنا في الطفولة والشباب.
ويكمل نظمي ” كان يعامل شقيقاتنا التسع بكل روح مرحة، حنون عليهن، وعندما استشهد ترك فراغاً كبيراً صدمنا جميعاً، كان محبوباً بشكل كبير.
أبرز ما كان يميز نائل صمته، فإذا تكلم ينطق درراً، كلماته معدودات، ولكن هذا الصمت اتضح فيما بعد أنه كان يخفي داخله بركاناً، نظمي سارداً.
يقول نظمي، لفتني قبل استشهاده بليلتين عندما كنت أدرس مادة الجغرافيا في مرحلة “التوجيهي” فجاء وكان حاملا معه القرآن، وقال لي ضع عنك هذا الكتاب وخذ سمع لي، فسمّعت له سورة القصص والنمل والشعراء مرة واحدة، ولم أدر حتى اللحظة كيف استطاع أن يحفظهن بهذه السرعة.
احتجاز الجثمان زاد الشوق
بعد 16 عاماً على استشهاده، لا تزال قوات الاحتلال منذ ذلك الحين، تحتجز جثمان الشهيد نائل هلَيِّل في مقابر الأرقام، وترفض الإفراج عن جثمانه رغم الحراكات المطالبة بذلك.
تتحسّر اُم نادر “لا زلنا نجهل بحال نائل وما حصل له، يجب أن نعيده كي نشعر بالدفئ والقرب من جسد وشخص نائل”.
ويختم نظمي حواره بنبرة حزينة “عودة جثمانه تعني: هدوء، استقرار، راحة نفسية، معرفة حقيقة، أنت تسمع حتى اليوم أنه استشهد ولكن لا تعلم هل هو اختفى ؟ هل هو فعلاً نفذ العملية ؟ أنت لا تدري، أنت تسمع أخبار، ولكن هل هذا حقيقي ؟ لا أدري! “