قلقيلية- خاص قُدس الإخبارية: في الوقت الذي يرقد سامر العربيد في مشفى "هداسا" بوضعٍ صحي خطير بسبب التحقيق العسكري، يقرع الأسرى في سجون الاحتلال أبواب زنازينهم تحت وقع هتاف واحد: "اصمد اصمد يا رفيق، مثل الراعي في التحقيق".
أعاد مشهد العربيد الذي تتهمه سلطات الاحتلال الإسرائيلي بزعامة خلية عسكرية قتلت مستوطنة بعملية تفجير عن بُعد غرب رام الله، شهر آب الماضي، قصة الراعي إلى الأذهان -قائد المنطقة الشمالية للعمل العسكري في الجبهة الشعبية-، الذي أعلن مبدأ "الاعتراف خيانة"، وارتقى لأجله من قبل ومن بعد (73 شهيداً) في أقبية التحقيق، بحسب هيئة شؤون الأسرى.
كانت ملابسه قد التصقت بجسده بفعل القيح والدم الممزوج بالعرق، حين جلس إبراهيم محمود الراعي (28 عاماً) بصعوبة في عزله الانفرادي، بعد أكثر من 8 أشهر من التحقيق العسكري كسّرت فيها عظامه، جلس يكتب وصيّته:
"لقد درست العلم الثوري وتعلمت أن التناقض بيننا وبين الأعداء تناقضاً تناحرياً لا يمكن حله سوى بانتهاء أحد النقيضين، كما تعلمت أن كلا من النقيضين سيعمل جاهداً من أجل تصفية الآخر وإنهائه. وتأسيساً على هذا المنطق العلمي، فطالما لم يعمل العدو على تصفيتي فهذا يعني أنني لا أمثل بعد جزءاً طبيعياً من نقيضه الرئيسي". (الرملة/1988).
إبراهيم راعي رفاقه
في اليوم الـثامن والخمسين، غادر المحققون زنزانة إبراهيم الراعي بعد استجوابه وتعذيبه في سجن جنين، كانت مجموعة متهمة بعمليات قتل جنود "إسرائيليين" قد اعترفت عليه، ولكنه كالاعتقال السابق، لم يعترف على نفسه ورفاقه، وحُكم بالسجن لمدة سبع سنوات ونصف، كان ذلك في كانون الثاني عام 1986.
بعد عام ونصف العام، جُن جنون الاحتلال بعد اعتقال خلية اغتالت رئيس بلدية نابلس آنذاك، وتتهمه الجبهة الشعيبة بالعمالة مع الاحتلال، وباستجواب المنفذين تبيّن أن إبراهيم وجه أوامره من داخل السجن، ليرجع مسلسل التحقيق والاستجواب مرّة أخرى ولكن بطريقة أكثر وحشية، فنُقل إلى سجن نابلس القديم ومن ثم إلى رام الله والمسكوبية، وأضرب عن الطعام خلال تواجده بالمسكوبية كاد أن يفقد حياته.
بعد أن أعادوا إبراهيم إلى التحقيق العسكري، اقتحمت قوات الاحتلال منزل عائلته في قلقيلية، تصف شقيقته "سونا" الراعي، التي كان عمرها 19 عامًا حينها، كيف حاولت والدتها منع جنود الاحتلال عنها حين همّوا باعتقالها فسقطت أرضاً، وقاموا باقتيادها إلى السجن.
تقول سونا، إن شقيقها إبراهيم كان في ذات الزنزانة لكنها لم تكن تعرف، وبدأوا باستجوابها، ومن ثم جلبوها للمثول أمام شقيقها وهو مقيد اليدين، وقالوا له إن شقيقتك تمتنع عن الأكل، فطلب منها أن تأكل وتشرب وألا تخشى شيئاً، وأخذ يطمئنها عن نفسه، فإذ بهم قبضوا على قميصها وأخذوا يهددونه بالاعتداء عليها، فردّ عليهم أن اعملوا ما شئتم، وبعدها أخرَجوها من الغرفة فوراً، وبقيت في الأسر لمدة أسبوعين.
استمر التعذيب 8 أشهر ومن قبلها 4 أخريات، وكانت تُوجّه التُهَم إليه فيقوم بنفيها رافضًا الاعتراف، إلى أن خرج أول مرّة من أقبية التحقيق في سجن الرملة منتصف شباط عام 1988، محروماً من الاستحمام أو تبديل ملابسه ومن أبسط حقوقه.
في هذه الفترة، كان يكتب وصيته التي استطاع تهريبها، قبل أن يعيدوه للتحقيق:
"أحبائي... الآن سأصف لكم كيف بدا لي الأعداء وهم ينفذون مؤامرة القتل، لقد رأيتهم أقزاماً وكنت عملاقاً وكانوا يصرخون ويتصايحون ترتجف أعصابهم (...)، وعندما حاولوا مساومتي شعرت بالحاجة للتقيؤ، شعرت بالاشمئزاز، رأيت وجه شيلوك ووجه تاجر البندقية المقيت، لكني شعرت أيضاً أنهم لا يزالون أغبياء لا يفرقون بين الصلابة والمبدئية وبين بخل التاجر، ولهذا ضحكت وبقيت أضحك، صدقوني رفاقي بأنني لم أسقط، سقطوا من فرط بؤسهم وقد أنهكهم التعب".
بداية النضال.. المبدأ لا يُجزّأ
ملامح الرجولة في وجهه كانت لا تزال تشوبها الطفولة في قلقيلية، حين قرر الراعي في مرحلة الثانوية العامة (1978)، الانخراط في العمل الوطني على نحوٍ منفرد، فشكّل أول خلية مكونة من ابن عمه وصديقه، لتفجير حافلة إسرائيلية، إلا ان الاحتلال الإسرائيلي قام باعتقالهم الثلاثة قُبيل تنفيذ الخطة مصادفةً، وحُكم 5 أعوام التحق خلالها بالجبهة الشعبية، لتبدأ أولى ملامح توجهه الفكري في السجن، بمطالعة الكتب والمنشورات التي توزعها حركته عن الفكر الثوري ومؤلفات غسان كنفاني الأدبية.
خلال هذه الفترة التي كانت الإدارة المدنية للاحتلال، هي التي تحكم المنطقة، بدأت تتبلور فكرة تشكيل روابط القرى التي تسعى "إسرائيل" إليها.
وقبل انقضاء محكوميته بعام، قررت سلطات الاحتلال في سجن نابلس المركزي الإفراج عن 49 أسيرًا، بينهم الراعي، كبادرة "حسن نية" بمناسبة تشكيل الروابط، وخلال البحث عن شخص لإلقاء كلمة امتنان لروابط القرى على هذه البادرة التي ترعاها الإدارة المدنية "الإسرائيلية" في حفل استقبال يحضره أهالي الأسرى والمنطقة بمبنى أمام السجن، بادر إبراهيم لتولي هذه المهمة، فوقف على المنصّة أمام الحضور، وألقى خطابه المشهود: هذه روابط عملاء ولا تمثل شعبنا، الممثل الشرعي والوحيد هي منظمة التحرير الفلسطينية"، فما كان من جنود الاحتلال إلا أن انقضّوا عليه وكبّلوا يديه وقدميه بالسلاسل، ونقلوه إلى سجن الخليل المركزي لاستكمال عامه الخامس.
ابن عمّه شاهر الراعي، الذي كان طفلاً لم يتجاوز 15 عامًا حينها، يروي لـِ "قدس الإخبارية" كيف أثر هذا المشهد بأبناء جيله بشكلٍ عميق، فيقول: كنا على باب السجن ننتظر خروجه، فرأيناه يؤْثِر المبدأ على مصلحته الشخصية، وكان قدوة بمعنى الكلمة.
إبراهيم يكمل وصيته:
"أقول لكم اليوم فقط، شعرت أني قوي وأحمل قسمات وسمات مناضل الجبهة الشعبية، على الرغم من أنني حملت بطاقة العضوية منذ سنوات، ولكن صدقوني فقد بقيت بيني وبين نفسي أعتبر نفسي مرشحاً وعضواً مع وقف التنفيذ، رغم مروري برحلة التحدي القاسية وصمودي الذي جسدت فيه واجبي نحو رفاقي وجبهتي وشعبي لتبقى صورة المناضل الفذ مميزة ". (الرملة/ 1988)
الشهادة والثأر المُقدّس
نهار الأحد 11 نيسان 1988، بدت حركة غريبة في منزل شقيقهم الثاني ، أقارب يصعدون ويخرجون مرتبكين، سألت سونا ووالدتها اللتان كانتا خارج المنزل منذ قليل، ما الخبر؟ فكانت الإجابة المبدأية: يبدو أن إبراهيم هرب من السجن، في محاولة لمواراة الخبر، وتمهيداً للخبر القاسي، أشعل أحدهم التلفاز فنطق المذيع بالخبر فوراً "استشهاد الأسير إبراهيم الراعي في سجن الرملة"، ليغرق المنزل بالبكاء، وعويل النساء.
تصف سونا كيف امتلأت الحارة والمنزل برفاق إبراهيم في تلك اللحظة، وملأوا جدران المنزل صوراً لإبراهيم، وأخذوا يقرأون وصية إبراهيم التي كتبها في سجن الرملة:
"مجرم من يفرط بأسرار الحزب، ومجرم من يركع أمام الأعداء ومجرم من لا تظل قامته عمودية منتصبة ومجرم من يمشي إلى الخلف ويتطلع إلى الوراء، صوبوا أنظاركم نحو العدو وتقدموا وتقدموا فالنصر لنا".
زعمت سلطات الاحتلال أنها وجدت إبراهيم في زنزانته منتحرًا وامتنعت عن تشريحه رغم ادعائها فعل ذلك، وسلمت جثمانه بعد يومين مشترطةً عدم حضور أكثر من 10 جنازته، وعند استلام جثمانه وجدوا فكه محطماً، وضربة بالرأس زرقاء متورمة، وعلامة في أسفل الرقبة لآثار جنزير، ودماء نازفة في الأذن، وغرزة في الخاصرة بطول 6 سم.
بعد 9 أعوام على استشهاده، كان قلب شقيقته سونا مشتعلاً في ذكرى استشهاده، حين سحبت مسدسها قرب جسر الأردن وأطلقت النار صوب جنديين إسرائيليين، وهربت بعدها مع الذين هربوا باتجاه الجسر، لكن عناصر الاحتلال تمكنوا من القبض عليها بعد أن أطلقوا النار دون إصابتها، وبدأوا بالتحقيق الميداني معها ضرباً وتنكيلاً، ليتم اقتيادها إلى سجن المسكوبية، وتُحكم بالسجن 12 عامًا، لم تر طفلها الذي كان يبلغ حينها 3 أعوام خلال فترة الاعتقال سوى مرة واحدة.
إبراهيم الشقيق والمُربّي
بالرجوع إلى الذاكرة، حملت سونا فنجان قهوتها بكفّيها كأنه تحتضنه وصوّبت عينيها تجاه صورة إبراهيم المُعلّقة في الغرفة، وأخذت تتحدث عنه لـ"قدس الإخبارية": "كان مهتمّاً بي، يجلس معي ويشُد على أهمية دراستي، في وقت لم تكن كل الأسر تُدرّس بناتها، يقول لي يجب أن تُحصّلي الشهادات العلمية، فالشهادة جواز سفر للفتاة، إبراهيم نقلنا نقلة نوعية، اهتمامه بنا كان عميقاً".
تضحك سونا وتستذكر، مرّة وقفت أمام المِرآة في إحدى الصباحات قبل خروجها إلى الجامعة، تدهن وجهها بمادة لتفتيح البشرة، فاقترب منها إبراهيم وسألها عن سبب استخدام المادة، وجاوبته "عشان أصير حلوة"، فتناولها من يدها وأخذ يدهن وجهه ووقف جانبها أمام المرآة، وسألها "هيك صرت أحلى؟"، تُعلّق سونا "كان يُعلّمني أن جمال المرأة في ثقافتها ووعيها وشهادتها، وليس بشكلها أو بلون بشرتها".
من عاداته كان يعشق الأناشيد الوطنية ويمقت ما دون ذلك، تذكر سونا، عندما كان يراها تستمع إلى مطربة مصرية، يقول لها "دعكِ من تلك الأغاني الهابطة، واستمعي إلى الشيخ إمام، لفيروز، أغاني تُعبر عن الواقع"، وإلى جانب ذلك كان يشرف على نشاطات ثقافية جماهيرية، كالدبكة، والأناشيد الوطنية، وعقد ندوات فكرية للشباب.
عن أول ليلة لخروج إبراهيم من اعتقاله الأول، تصف شقيقته سونا كيف جلس إبراهيم مع أشقائه الأطفال، وأخذ يعطيهم دروساً حول منظمة التحرير والدور الوطني الذي تلعبه المجموعات النضالية، وتقول "كنا أول مرة نسمع بتلك المفاهيم والقصص".
بعد خروجه من الأسر، التحق إبراهيم بتخصص علم اجتماع في جامعة النجاح بنابلس، وأسس أول قطب طلابي، ولكنه لم يتم سوى عام ونصف العام، ليتفرّغ للعمل السياسي في قلقيلية، ويؤسس للعمل العسكري في منطقة الشمال.
كان يؤمن بدور الشباب في صناعة التغيير، يتكلم شاهر ابن عمه: "كنا شبانًا صغار ننظر إليه كمثل أعلى وقدوة، مسألة كيف أقنعني إبراهيم بالانخراط في صفوف الجبهة فكرت بها كثيراً، لم يحكي لنا فكراً في البداية، فكيف اتبعناه؟ لكن مردّ الأمر يعود إلى الممارسات العملية المقرونة بالقول دائماً، في وقت كانت في اهتمامات الشباب مختلفة تماماً ما قبل الانتفاضة الأولى، الكل مشغول بالعمل والادخار والتزامات اجتماعية، والنزول إلى البحر للترفيه".
ظهر إبراهيم للشباب نشيطاً يسعى إلى التغيير، فشكل لجان العمل التطوعي، يخدم الناس، ويحصد القمح معهم، ويساعد الفقراء، ويحفّز المجموعات لبناء الأسوار المهدمة، ودهان مدارس اللاجئين، وكذلك العمل التطوعي في المقبرة تنظيف وتنظيم المكان، هذا العمل الجماعي لشبان صغار كانت تشدهم وتنظمهم روحياً.
يستشف شاهر تأثر إبراهيم بالتجارب الجزائرية، والفيتنامية التي استطاعت تحرير أرضها من الاحتلال الأمريكي رغم فارق القوة التكنولوجية التي يمتلكها العدو، كذلك بشخصية "ماوتس تونغ" صاحب الثورة الصينية، وكانوا ينادونه مزاحاً بـِ "ماو"، بدا ذلك من خلال سردياته عن القصص التي طالعها وسمع عنها.
تذكر سونا شقيقها الشهيد، وإلى جانبها رجُلها الذي تركته طفلاً ابن 3 أعوام حين دخلت الأسر، تقول ملأ الدنيا في وقت قصير واستشهد، وترك لنا كل التفاصيل.