"الذي لم تتح له فرصة شمّ الغاز أبدًا".
هكذا كان الرفاق يمازحون سامر، الذي كان يواصل الاقتراب في الإشتباكات من الجنود إلى حد أن مدى قنابل الغاز يمتد لعشرات الأمتار خلفه، نحو المتظاهرين. وكان مفعول القنابل ينتهي ويتطاير غازها قبل أن تنتهي المواجهات ونقفل عائدين إلى وسط رام الله، نحو المستشفى أو المقبرة أو مكتب الشعبية.
كان سامر بقبّعة الكاسكيت التي لم تفارق رأسه أبدًا، وبجسده الهزيل، والسيجارة التي تظل في يده حتّى تصل الشعلة إلى الفلتر، فيمجّ منها نفسًا إضافياً قبل أن يلقي بها، كونًا موازيًا من الهدوء وسط كل ضجيج الانتفاضة الثانية.
ولا أذكر أنني رأيته حزينًا وناقمًا كما كان بعد استشهاد أبو سريع. حين اختطفه "زلم" السلطة واعتدوا عليه وعلى مجموعة من الرفاق بالضرب لكي يقمعوا المواجهات التي اندلعت بعد الاستشهاد.
قبل يومين حلّت ذكرى استشهاد محمد الدرّة. أتذكّر أنني قد سمعت منه الخبر في اليوم التالي للاستشهاد. لم تتسنّ له أو للرفاق مشاهدة كيف تم قتل محمد بصليات الرصاص وهو يبكي. كان قد سمع تفاصيل استشهاد طفل محتميا بوالده للتوّ، بعد يوم من المواجهات على حاجز السيتي إن. وكان يروي التفاصيل التي سمعها بوضوح يبدو فيها وكأنه يعتصر ملامح وجهه.
من دون مجاز، ومن دون تشبيه أيضًا، عثرت على هذه الصورة لسامر وهو يحتضن ابنته. الابنة تختبئ في وسط الجبل، مجللة بالأمان، مجللة بالثقة التي لا يُحكى عنها: سينتهي الزمن الذي يموت فيه الأطفال كما قتل محمد الدرة.
تأملوا في الصورة وانظروا إلى الجسد الخندق! إلى متراس اللحم والعظم هذا الذي يسدّ الطريق أمام شرور العالم. طفلة تنبثق من الحضن كما ينبثق النرجس من صخرة، متكئا على صمتها الجليل.
البعض يذوب في هذه الحياة، تعتصره، تجعلكه كمنشور مليء بالوعود والأقسام التي تظل كلامًا. والبعض يعتصر الثأر في قلبه نارًا، يصفّيه ويظل يضطّرم، وإن لم يبدُ في الوجه ما ينمّ عن الجحيم الذي في الصدر.
سامر الآن في المستشفى، بعد جولات التعذيب الرهيبة التي صدر السماح بتنفيذها ضد جسده الهزيل، بأمر من القضاء الإسرائيلي. ولا بدّ أن كفّ أبو سريع الآن على جبينه. وهو الآن، على مدخل الجحيم واقف، يسدّ بجسده - المتراس- الصخرة- الخندق- الراية- السارية- العلم- البوصلة، بعضها عن كلّ فلسطين.