غزة - خاص قدس الإخبارية: "الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين، ولا تجترح المعجزات .. كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقا صغيرا يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود .."
هاتف "دعاء 18 عامًا" يرن؛ على عجلٍ ردت على المكالمة فالمتصل والدتها .." وين أخوك ناصر!؟" (استغربت الأم من رد ابنتها بالعادة يرد على الهاتف نجلها الطفل)، لم تخف دعاء ما تمر به .. "اللي نصف ساعة مش شايفاه" نبضات قلب أمها تضطرب، فابنتها المسعفة المتواجدة بمخيمات العودة على حدود القطاع لم تعطها الاطمئنان الذي يوقف هذا الاستشعار الداخلي، انتهت المكالمة، مرت عشر دقائق بطيئة على قلب الأم، عاودت ابنتها الاتصال .. "ماما؛ والله مني لقياه"، بدأت الأم وكأنها تشعر بأمر ما واحساس غريب يتسلل إلى داخلها، إلا أنها لم تظهر ذلك.. "خلي فريق الاسعاف يدور عليه معك ".
حين المكالمة، كانت عقارب الساعة تحط رحالها عند الخامسة والنصف، كبركان يغلي من القلق كان قلب والدة ناصر، فهذه هي أول مرة التي لم يرد ناصر بنفسه على هاتف شقيقته، كذلك أول مرة يتأخر بها عن العودة للمنزل، بسرعة زحف القلق إلى قلبها، وافتعل ضجيجاً أيقظ هدوءها، لم تلتزم بما طلبته أحاسيسها من صمت، وما أن مرت دقائق على تلك المحادثة، أمسكت بهاتفها وهي تحدث نفسها "لعله الآن وصل إلى شقيقتيه"، اتصلت بابنتها مرة أخرى، لم ترد دعاء، عاودت الاتصال ولم ترد، اجتاحها سؤال مخيف: "ما سبب عدم الرد يا ترى؟"( كأن شيئا باغت تفكيرها لم تكن مهيأة له).
العطلة الأخيرة
بداية القصة، الجمعة ( 28 سبتمبر/ أيلول 2018م)، ما أن اسدلت الشمس خيوطها على عائلة مصبح، التي تقطن بمنطقة "عبسان الكبيرة" شرق محافظة خان يونس جنوب قطاع غزة، استيقظ الطفل ناصر (12 عامًا)، وما أن عاد من صلاة الفجر شاهد والدته (سماح مصبح 40 عاماً) تجلس على غير عادتها بهذا التوقيت.
ناصر يعرب عن استغرابه مندهشا: لسى مش عاجنة!؟
بصوت متعب ردت عليه: حاسة حالي تعبانة
جلس الطفل لينام بجوار امه: خلص لا تعجني، بكرا اختي دعاء بتكون اجازة من الجامعة وبتعجن معك..
مرت ساعة، استيقظ ناصر من نومه القصير، وذهب إلى مزرعة جده (والد أمه)؛ فكان هذا الطفل بالعادة يذهب (يوم عطلته المدرسية) إلى المزرعة، يستمتع، بتعلم طرق زراعة المحاصيل، ومساعدة جده، لكن الأخير طلب من حفيده، أن يبيع كمية من "الفجل" حصداها معا، لم يمانع الطفل وأخذ الكمية ووضعها أمام مسجد بجوار سكنه، هناك ألقى التحية على كل من دخل المسجد، يمازحهم بلطف .. "اشتري مني"، وأمام لطف هذا الطفل الحافظ للقرآن الكريم والمتفوق بدراسته كما يعرفه أبناء حيه باع كل الكمية، وعاد لمنزله.
ينتظر ناصر على أحر من الجمر مرور الوقت بسرعة والحصول على إذن والده بالذهاب لمسيرة العودة؛ يحدث شقيقته المسعفة دعاء:
- روحي احكي لبابا بدنا نروح على السلك نسعف المصابين
- هو نائم، ولا تنسى أن الجمعة الماضية أعطانا فرصة أخيرة
- أنتِ مصدقة أنه ما بدنا نروح على الحدود
يلح الطفل أو كما يلقب "المسعف الصغير" على شقيقتيه المسعفتين دعاء، وإسلام (19 عامًا)، جهز نفسه وارتدى ثيابا جميلة، طلب من والدته أن يرتدي ملابس "ملائكة الرحمة" اشترته له قبل يومين، لكن الأم رفضت خشية أن يتسخ من رمال مخيم العودة شرق خان يونس، معللة .. "غدا سترتديه في الصحة المدرسية وهو جديد غير متسخ"، قبل أذان العصر بعشر دقائق، أيقظ الطفل والده لأداء صلاة العصر، طلب منه الإذن للذهاب لمخيم العودة، فأذن له بالذهاب.
كعادته جهز ناصر حقيبتي شقيقتيه الطبيتين دعاء وإسلام، (الأولى تدرس إعلام وعلاقات عامة وحاصلة على دورات في الإسعافات الأولية والتمريض، والثانية تدرس "قبالة")، والاثنتان متطوعتان في إسعاف المصابين شرق خان يونس، والدته التي تجلس بالطابق الأسفل حينما رأت نجلها خارجا مع شقيقتيه، ارتدت حجابها ولحقت بهم، من على عتبات البيت تنادي "ناصر .. ارجع"، أشار طفلها الصغير بيده: "تقلقيش؛ أنا حروح خواتي الك".
خلال الطريق أهدى ناصر شقيقته دعاء "سوارًا" وقال لها: "سأحضر لك غدًا اثنتين عندما أرجع من المدرسة".
وصلت دعاء وناصر وإسلام ميدان العودة قرب السياج الفاصل.. قنابل غاز كثيف، رصاص، إصابات، الجماهير تندفع ككتلة بشرية واحدة، كان يومًا صعبًا، تفرق الأشقاء يحملون المحاليل الملحية لرشها على المتظاهرين المصابين بقنابل الغاز، وتقديم الإسعافات الأولية لهم.
حلم الطبيب
حكاية ناصر مع الاسعافات بدأت في يونيو/ تموز 2018م، حينها انخرطت والدته وشقيقته بدورة "اسعافات أولية" عقدها الهلال الأحمر الفلسطيني، حضر الطفل الذي لم يتجاوز اثنى عشر عاما، الدورة، خلالها كان يتطوع، بأن يكون من يطبق عليه المحاضر التفاصيل العملية لكيفية "الانعاش القلبي"، ووقف النزيف، أعجبت نباهته المحاضر، وفي إحدى جلسات تطبيق "الانعاش القلبي" طلب المحاضر من الجميع تطبيق طرق الانعاش، الجميع نفذ ما طلب منهم حتى ناصر.
لكن الطفل المسعف نال "تصفيق الجميع" فاستطاع الانعاش بطريقة صحيحة، لكنه لم يعط شهادة اختتام الدورة، التي حضر كل ايامها، لكن الطفولة كبرت في داخل ناصر، ما قام به خلال المسيرات كان عملًا بطوليًّا بالنسبة له، كان يتقدم الصفوف الأولى لإسعاف المصابين، كان دائمًا قريبًا من الموت والاستهداف من قبل جنود وقناصة قوات الاحتلال الإسرائيلي المنتشرة قرب السياج.
في 30 مارس/ أذار انطلقت مسيرات العودة، يشارك في البداية غيره من المتظاهرين للمطالبة بحقهم في الحياة، وكسر الحصار الإسرائيلي عن غزة، والعودة إلى بلادهم، لكن بعد دورة الاسعافات الأولية، انضم للفرق الطبية مع شقيقته، كان يساعد شقيقته وكافة المسعفين.
في النقطة الطبية بخيم الشهيدة المسعفة "رزان النجار"، يتقدم ناصر مع المسعفين حتى مسافة قريبة من السياج، الجميع هنا يخاطر بحياته، فالشواهد على قتل جنود الاحتلال وإطلاق الرصاص على المسعفين كثيرة، لكنهم أمنوا بعملهم الإنساني في خدمة المصابين، تحدوا تهديد الجنود، والرصاص، وقنابل الغاز التي تلقى من طائرات صغيرة مسيرة، ومن مدافع عسكرية بكثافة، بالعادة يساعد ناصر المسعفين في إخراج الأدوات من الحقائب، ووقف النزيف، حينما يطلبون شيئا عاجلا من النقطة الطبية، يسير مسافة 300 متر ذهابا وإيابا (المسافة من السياج وحتى النقطة الطبية)، وإن صادف حالة عاجلة لا يتوانى بمساعدتها.
بعد كل جمعة من التطوع الشاق، يبدأ الطفل الصغير، بالحديث مع والدته، ويخبرها .. "هذا عالجته من الغاز برش المحلول على وجهه، وهذا انقذته من التشجنج؛ وذاك أوقفت نزيفه ولم يكن مسعفا غيري"، وهذه النماذج تكررت كثيرا في حياة المسعف الصغير.
كان المسعف الصغير لا يحمل سوى محلول طبيّ، يحاول به إسعاف المصابين، يمارس حلمه ويستعد لأن يكون طبيبًا أو ممرضًا مستقبليًّا، فهو في المدرسة كذلك يرتدي زي "ملائكة الرحمة"، ولا يدرك هذا الفتى أنه سيكون هدفًا متنقلًا لقناصة الاحتلال، تنتهك طفولته قبل انتهاكها للقوانين الدولية التي تحمي المسعفين دون التعرض لأذى خلال تقديمهم للعلاج للمصابين.
ما يزال ناصر وشقيقتاه في مخيم العودة، عقارب الساعة تشير إلى الخامسة والنصف عصرًا، دعاء منشغلة في إسعاف المصابين، "حاولنا إسعاف طفل مصاب برأسه لكن حالته خطرة.. الآن هو في النقطة الطبية"؛ كان الكلام موجهًا لدعاء من إحدى زميلاتها، استفسرت عن اسم عائلته فأخبرت خطأ في البداية أنه من عائلة "زعرب"، واصلت عملها لكنها قرب ساعات المغرب بدأت تتفقد شقيقها الطفل تتجول بين المشاركين لم تجده، علما أنه قبل الخامسة عصرا أعطاه حقيبة الاسعافات التي كان يحملها.
انصبت أكثر توقعات دعاء أن يكون شقيقها يجلس في الخيام مع الشبان الذين يشعلون الإطارات، لكن دقات الخوف والاضطراب بدأت بالاشتعال.
بالعودة إلى المكالمة الهاتفية، الأم منشغلة على ولدها، فابنتها لم ترد على الهاتف، الخوف يجتاح مرة أخرى قلب الأم وابنتها، تتجول دعاء، تركض، تسأل رجال الأمن تارة لعلهم يساعدونها، ثم النقطة الطبية، والمسعفين، لكن دون فائدة.
زحمة تساؤلات!
مرت دقائق صعبة؛ الأم في حالة ترقب، تريد سماع كلمة .. "ماما أنا ناصر" في زحمة الاحتمالات والتساؤلات، مع التوتر انشغلت به كافة أعضائها، صاحبه غليان درجة الاضطراب، اتصلت دعاء "هيني بدور عليه" تطمئن والدتها وبسرعة أنهت المكالمة، بدأت هواجس الشك بحدوث أمر ما تجول في خاطر والدة ناصر، لتعاود الاتصال بابنتها لعل هناك ما تخفيه عنها، لكن الأخيرة أبدت انشغالها بالبحث.. "شوية وبأرجعلك"، وانقطع الاتصال.
أصبحت في حيرة من أمرها ترسم بعضا من علامات الاستفهام والتعجب تتردد في وضع نقطة في نهاية التفكير خشية أن تكون هي نقطة الفراق والوداع، فهي تدرك أن جنود الاحتلال يقتلون المتظاهرين السلميين قرب السياج الحدودي بالرصاص الحي دون رحمة أو شفقة.
لم يدم صمت الأم طويلا (يكاد نبضات قلبها تتوقف من شدة خشيتها على ابنها)، عاودت الاتصال، ردت دعاء على المكالمة، تاركة والدتها تسمع ما يدور بينها وبين أحد المسعفين، يمسك هاتفه ويقلب بعض صور الشهداء الذين قتلهم الاحتلال، ما زالت أمها تسمع ما يدور من حديث، يقلب صورة وأخرى، دعاء تصرخ بصوت مرتفع لا ارادي "انتظر؛ عد للصورة السابقة" كصوت ردع تصرخ "هدا اخويا .. ناصر استشهد يما" انقطع الاتصال.
توقفت الأم عن الكلام، الذي غاب بين سطور الوجع، لأن الدموع نابت عنها في إصدار أنين الجرح، بضع دقائق مرت وتلك القطرات تبلل وجنتيها كغيمة عابرة اصطدمت بصاعقة فراق الابن، لتسكب الألم في كأس المرارة.
استعادت قواها بعد أن أذابت الدموع، ذهبت إلى زوجها حاولت اخفاء ما يمكن اخفائه من ألم: "مش عارفة اذا ناصر متصاوب أو مستشهد بدنا نطلع على المستشفى الأوروبي (جنوب القطاع) ونشوفه".
ذكريات المسيرة
في المشفى تقابلت الأم بابنتيها، الصمت سيد الموقف، ناصر جثة هامدة في ثلاجات "الموتى"، الحزن يسكب من العيون، (ليتها تعيد لك الحياة)، طفل في الثانية عشر ربيعًا اخترقت رصاصة إسرائيلية رأسه دخلت من الجهة اليسرى وخرجت من اليمنى، سقط على الأرض وبيده المحلول الملحي الذي لم يشفع له أمام تلك الرصاصة التي لم ترحم حتى "ملائكة الرحمة".
رحل الطفل الصغير شهيدا، بجريمة إسرائيلية جديدة، تاركا خلفه ذكريات في ميدان الاسعاف، وحلمه الذي لم يكتمل بأن يصبح طبيبا، ومواقف عديدة تذكرهم به.
في مراسم بيت العزاء، تفاجأت والدته بزيارة أناس يبكون بمرارة أحدهم شاب يذكرها بفضل نجلها عليه "في إحدى أيام المسيرات، ألقى جنود الاحتلال قنبلة غاز بقربي فلم أر شيئا وسقطت على الأرض، وجاء ناصر ورش المحلول المحلي على وجهي وأنقذ حياتي"، يكمل بدموع تهرب إلى وجنتيه "لا يمكنني نسيانه"، مسعف آخر تواجد ببيت العزاء، لم ينس كذلك عندما كان يسعف المصابين وتأثر بشكل كبير من القاء جنود الاحتلال قنابل الغاز، وقام الطفل الصغير برش محلول ملحي على وجهه ومعافاته، هذه إحدى نماذج كثيرة لدور الطفل الشهيد في اسعاف المصابين خاصة بالمحلول الملحي، رحل وافتقدته النقطة الطبية، إذ كان يساعدهم في نقل الادوات الطبية، كان يؤم الصلاة في المسعفات.
أيلول يفتح أولى صفحاته، وهو تاريخ ميلاد أم ناصر، لم يدع هذا الطفل تمر المناسبة دون بصمة له، أحضر بمصروفه هدية؛ عبارة عن قلادة مكتوب فيها .."ربي لا تحرم أمي الجنة"، عبارة أدركت معانيها بعد استشهاده.
الخامس عشر من أيلول، صديقة والدة ناصر تتصل بها، تخبرها عن تكاليف أداء مناسك العمرة، وأنها قد تصل إلى أكثر من ألف دينار، رأى الطفل الصغير بكاء والدته، فمسح بيده دموعها وقال لها: "أنت مغلبة حالك، مفروض على تبعك تاخدي أجر حجة .. وأنا بروح عمرة"، مرت الأيام وتفاجأت الأم بأناس يعتمرون عن ابنها بعد استشهاده، تتذكر ما قاله لها.
الجميل في حياة هذا الطفل، الذي أصبح ذكرى، أن له ثلاثة أصدقاء، يجتمعون كل مساء خميس من كل أسبوع، يذهبون إلى مطعم للمأكولات الشعبية، ومن ثم لمتجر حلويات، وفي يوم الخميس قبل الجمعة الأخيرة، تطلب أمه أن يرافقه لمراسم زفاف عريس من أقربائهم كان ا قد طلب من ناصر الحضور، لكن أخبر والدته أن تذهب بمفردها.
- العريس طلب منك الحضور!
- سلمي عليه؛ احكيله قعدت الأصدقاء بتتعوضش ..
درس ناصر بمدرسة "الصحابة للمهاجرين الشرعية"، كان من المتفوقين فيها، أتم فيها حفظ القرآن الكريم وفاز بالمركز الأول بمسابقة ابداعية بالخطابة شارك فيها أربعون طفلا، انتقل للمدارس الحكومية في الصف السابع الاعدادي، أتم حفظ القرآن الكريم.
لكل حلم سبب، وحلم ناصر بأن يصبح طبيبا، كان دافعه كي يعالج والدته التي تعاني من غضروف بالظهر، لطالما كان يقدم فقرات الإذاعية المدرسية يحاكي أصوات قراء وشيوخ كبار في العالم الإسلامي بصوته الندي كالشيخ أحمد العجمي، انخرط في لعبة كرة القدم بمركز حارس مرمى، انضم لنادي "الفهود الدولي" للعبة "الكونغو فو" حصل على الحزام الأصفر، والبرتقالي، وله أربعة أشقاء وهم (محمد 16 عاما، وأحمد 10 أعوام، ودعاء18 عاما، وإسلام 19 عاما).
قتلت الرصاصة الإسرائيلية أحلام ناصر، ورحل تاركا خلفه، دروع وشهادات تقدير لحفظه للقرآن الكريم، وميداليات ذهبية مع فريق المدرسة لكرة القدم، وأحزمة رياضية، وبهذا نسدل الستار عن قصة طفل روتها والدته، اكتوت بنار الفراق، وسكن الحزن هذه العائلة للأبد، ولم يبق من ناصر إلا صورة معلقة في صالة استقبال الضيوف مكتوب عليها الشهيد المسعف ناصر مصبح.