غزة – خاص قدس الإخبارية: "الرحلة كانت خاطئة من البداية؛ خرجت محبطا ومكبوتا، بقرار متسرع.. في النهاية كنت أمام قرار العودة من بلجيكا لغزة".. بعد رحلة استمرت ثلاثة أشهر بالسفر من غزة وصولا إلى بلجيكا عاش هناك ستة أشهر أخرى كان مهدي الدغمة (54 عاما) أمام اتخاذ قرار صعب بـ "العودة الطوعية" للقطاع المحاصر، فلم تكن "الحياة الوردية" التي سمع عنها هي التي شاهدها على أرض الواقع، تحمل رحلة صعبة وخطرة لأجل ذلك الحلم الذي بحث عنه في شوارع بلجيكا ولم يجده.
تقدر مصادر من بلجيكا لـ "شبكة قدس" عدد الذين سجلوا للعودة الطوعية بنحو 250 شخصا، ومصادر أخرى من غزة أكدت للشبكة أن 28 شخصا ممن قدموا "عودة طوعية" وصلوا غزة منذ بداية العام الحالي.
بداية القصة، (23 سبتمبر/ أيلول 2018م) بحثًا عن حلم بالعمل في بلاد أوروبا، ترك الدغمة أولاده العشرة وزوجته، وسافر وحيدا.. راسمًا آملاً بإيجاد مستقبل أفضل لهم من الحصار المطبق في غزة، واتجاه بخط سير جديد يسلكه المهاجرون من قطاع غزة إلى أوروبا عبر أدغال وصحاري إفريقيا، يشمل 8 دول مروراً بالعديد من المناطق الخطيرة، بما فيها صحارٍ وغابات، تعج بعصابات الهجرة وقطاع الطرق.
رحلته بدأت بالانتقال إلى مصر رسميا، وبعدها إلى موريتانيا -التي لا تضع شروطاً لانتقال الفلسطينيين إليها- بالطائرة، ومن هناك بدأ رحلة غير شرعية من غابات موريتانيا إلى صحراء مالي، ثم الجزائر والمغرب مروراً بإسبانيا وفرنسا، للوصول إلى المحطة الأخيرة والمستهدفة من معظم المهاجرين وهي "بلجيكا"، لسهولة إجراءات اللجوء وسرعتها، كما يشاع، ولكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن.
تفاصيل الرحلة تفترش ذاكراته في حديثه مع "قدس" عائدًا للوراء للحظة الانطلاق: "مكثت في مصر 15 يوما، واستمرينا في الطرق عبر صحراء مالي مدة ستة أيام (..) وصلنا مرهقين مدينة "تمنراست" بالجزائر، وفيها تعرضنا لعملية نصب واحتيال من اثنين من المهربين، حتى ذهبنا للعاصمة الجزائرية ومكثنا فيها 13 يوما ننتظر موعد التهريب للمغرب".
"مشينا سيرا على الأقدام تسع ساعات.. كانت من العذاب" في هذه اللحظة أعلن استسلامه والعرق يتصبب من جبينه تحت قرص الشمس في أفريقيا الحارقة وقت الظهيرة "بدي أموت هان " يقول للمهرب، لكنه تحمل وعبر.. أخيرًا برفقة عدد من المهاجرين للمغرب، وفيها ظل 12 يوما ينتظر أي فرصة لعبور بوابة مدينة "مليلة" المغربية التي تحتلها إسبانيا، واحتجز فيها 22 يوما ونقلته السلطات الإسبانية مع عدد من المهاجرين – عبر الباخرة – إلى مدينة برشلونة الإسبانية.
معاناة من اليوم الأول
ديسمبر/ كانون أول يطوي أول صفحاته، حطت أقدام الدغمة أرض بلجيكا، نسي معاناة السفر فالقادم "هي حياة وردية.. ومستقبل مشرق" هكذا يعتقد، لكن كانت الأمور مختلفة، وله حديث في ذلك.. "كان البرد شديدا في اليوم الأول؛ فذهبت ونمت عند صديق لي هناك (..) في اليوم التالي سلمت نفسي للسلطات البلجيكية واستمرت إجراءات تسجيل الدخول وأخذ بصمات من الساعة الخامسة فجرا حتى ساعات المساء، فكانت المعاناة من اليوم الأول رغم أنني كبير في بالسن".
في مخيم بمنطقة قروية بعيدة عن العاصمة "بروكسل" وجد الدغمة نفسه بمخيم للاجئين بعيدا عن حلمه بإيجاد عمل، وبدأت الأيام تمر شيئا فشيئا؛ عمل هناك لمدة شهر بالملابس المستعملة" بالة" بأجرة شهرية ألف يورو، لكن صاحب العمل كان يعطيه الراتب بنظام الدفعات، مشهد أعاد له الأذهان لحياة الرواتب في القطاع.
لماذا قررت العودة؟.. كان هناك سببا رئيسا لذلك والكلام للدغمة: "مكثت ببلجيكا ستة شهور، وجدت أناس وشباب لهم ثلاث سنوات ولم يحصلوا على إقامة، والعمر يمضي ولا أستطيع العمل، واحتاج إلى أربع سنوات لأخذ القامة وأكون قد كبرت، كما أن الإجراءات صعبة والعمل نادر واللغة صعبة".
بالنسبة للدغمة وأمام هذه الحياة المتجمدة عند عقارب الروتين والبؤس، كان أمام قرار لا مفر له بالعودة للقطاع، قدم لدى دوائر شؤون اللاجئين ببلجيكا "عودة طوعية" التي حملته من مطار "بروكسل" إلى مطار القاهرة خلال أربع ساعات دفعت الجمعية تذكرة الطيران ووعدته بتحويل 2200 يورو له عندما يصل القطاع، وهي ذات الرحلة التي استغرقت ثلاثة أشهر مرورا بطرق أخرى، فوصل القطاع في 27 يونيو/ حزيران الماضي لكن التعهدات المالية حتى اللحظة لم تصله.
كلاب وصوت رصاص.. يقترب؟
بقي لحلول المساء لحظات.. لحظات وتكتسي السماء باللون الأسود؛ وتغيب شمس أفريقيا الحارقة، يوشك وائل الشاعر (27 عاما) ومعه خمسة مهاجرون من غزة للوصول للحدود المغربية، بعدما تركته عربة المهرب بين جبال وغابات، كان المشهد ساحرا بالنسبة للشاعر ومن معه قبل أن يسمعوا صوت نباح كلاب وصوت إطلاق رصاص يقترب منهم شيئا فشيئا.
على عجل احتمى كل واحد فيهم وراء جذع نخلة، لا تمحو مرارة الغربة ذلك المشهد فتسحبه ذاكرته إلى تفاصيله في حديثه لـ "شبكة قدس": "اقتربت الكلاب منا وكانت نحو عشرة، لم نر الأشخاص لكن سمعنا لهجة لم نفهمها.. من بعيد أطلقوا الرصاص العشوائي علينا، شاهدنا الرصاص يرتطم بالأشجار التي حمتنا من الموت المحقق، كلما نبحت الكلاب باتجاه ما أطلقوا النار فيه، وأخذت تقترب نحونا حتى صارت المسافة بيننا لا تزيد عن عشرة أمتار حينها قلت: إننا سنموت حتما هنا، لكنهم فجأة ابتعدوا".
هذه المخاطرة لم تتوقف هنا، فما زالت للقصة بقية تفاصيل أخرى: "بعدما غادروا، واصلنا المسير ووصلنا الحدود المغربية، فتفاجأنا بخندق طويل بعمق ثلاثة أمتار بالأرض وبنفس المسافة بجانبه تلال ترابية (..) نزلنا بداخله بواسطة حبال وواصلنا المشي حتى وجدنا جنود يشهرون سلاحهم تجاهنا.. نظرت للأعلى فكانت قوات من الجيش المغربي وعدنا من نقطة البداية".
وكحال سابقه، بعد عدة محاولات نجح بالوصول إلى مدينة "مليلة" المغربية وتوجه إلى إسبانيا ثم بلجيكا في بداية العام الحالي، وعاش فيها ثلاثة أشهر يختصر وصفها: "نمت بغرفة مع ثمانية أفراد بمخيم اللاجئين.. كانت السرر من طوابق، فقط لك خزانة بها قفل ومفتاح، كل واحد فيهم يختلف ميعاد نومه واستيقاظه.. الأكل لا نعرف أحلال أم حرام، وإذا لم تستطع الالحاق بموعد الإفطار أو الغداء أو العشاء خلال نصف ساعة من الموعد المحدد فإنها تذهب عليك".
لكن ماذا عن الحياة هناك ...!؟، هذا ليس بأحسن حال من السكن (وكأن الحياة سجن وطعام يقدم لنزلاء)، يضيف: "الحياة هنا صعبة، لا يوجد بها عمل، تحتاج إلى لغة قوية، يجب أن تفتعل المشاكل حتى تحصل على حقوقك، يعطوك كل أسبوع فقط 7 يورو تكفي لشراء زجاجة كوكا كولا يوميا فقط".
"مغترب عشان أكل ونام".. صراع داخلي كان يدور بين الشاعر وهو متزوج ولديه ولد وبنت، فالوقت يمضي، لماذا اتخذ قراره بالعودة ...؟ لا يخفي السبب: "وجدت حالات وأناس لهم سنوات وحصلوا على رفض الإقامة، خشيت البقاء لأجل أمل ضئيل، كما أن هناك تتولى الحكومة الاعتناء بالأولاد بالمدارس فسيتعلمون عادات مختلفة عنا، وقدمت "عودة طوعية" لغزة، فوصلت مصر بالطائرة قادما من بروكسل.. ثم دخلت غزة بداية يونيو/ حزيران الماضي".
ألمانيا.. ليست أفضل حالاً؟
"خرجت في بداية ٢٠١٥.. إلى تركيا وأقمت بها فترة قصيرة ومن بعدها ركبت سفن الموت إلى اليونان وبدأت رحلة أخرى من الموت باليونان، ثم إلى المانيا مشيا على الأقدام وبعض المواصلات الخفيفة.. قطعنا عدة دول ودخلنا بعض الغابات ومشينا بالليل بين أشجارها.. لا نعرف ماذا أمامنا؟؛ قطعنا بعض الانهار ونمنا بالبرد وتحت الأمطار حتى وصولنا إلى ألمانيا وبقيت فيها فلم أستطع دخول بلجيكا لأنها قامت بأخذ بصمته".. هذا وصف مختصر لرحلة طويلة وشاقة عاشها الشاب محمد إبراهيم (25 عاما) من غزة.
بعد أيام، يتقدم إبراهيم للعمل في معمل ألماني وحينما عرف أنه فلسطيني هز صاحب العمل برأسه مندهشا أو مستهزئًا: " Du bist (مجاهدين)”.. وأتبع كلامه بالألمانية: "يعني أنت مع المجاهدين؟" رد الشاب الغزي: "لو أنا من المجاهدين كان مطلعتش من بلدي.. جاي أعيش بسلام وأعمل وأدرس هنا" لكن هذا لم يشفع له بالحصول على فرصة عمل.
يقول إبراهيم لـ "شبكة قدس": "ألمانيا كانت صعب جدا بأن تعطيني إقامات أو شبه مستحيل فلسطيني يحصل على إقامة إلا نادرًا، بعض المناطق لم تكن تسمح للعمل بدون إقامة، فحصلت على 3 مرات رفض من المحكمة العليا بألمانيا لأن "قضيتي ضعيفة" بنظرها".
"لأنني فلسطيني تعاملت منهم هناك على أني شخص "بلا وطن" ولا أحمل وثيقة هوية، واجهت أشخاص يكرهون اللاجئين ويتلفظون بألفاظ بذيئة، ومعاملة سيئة، حتى العلاقات الاجتماعية بيننا كعرب أو فلسطينيين كانت منعدمة فكل واحد كان نفسي.. نفسي" وهكذا عاش تفاصيل حياة صعبة هناك.
الوقت والسنوات كانت تمضي على هذا الشاب، صعب أن تعيش هناك بدون شهادة جامعية، ولا يستطيع الخروج لأي دولة كون هناك بصمة له فيها، فكان أمام قرار مصيري: "اتخذت قرار العودة لأنني سأعيش هناك أكثر من خمس سنوات بلا فائدة وقدمت في "دائرة الأجانب" بألمانيا "عودة طوعية" عبر الطائرة من مطار "ميونخ" إلى القاهرة بمصر".