لا بد أن نعترف أن أبرز ما خسرناه في الأقصى كانت خسارات الوعي: خسرنا كثيراً حين قبلنا التعايش مع المرور عن باب المغاربة مسلّمين تسليماً لا يتخلله أي تحدٍّ بأن هذا الباب بات بيد الصهاينة ومدخلهم الدائم لاقتحام الأقصى، ولا يوجد ما يمكن فعله لتغيير ذلك، حين سلّمنا كذلك بأن الردم المتراكم في الساحة الشرقية للأقصى أمر واقع لا يمكن تغييره، حين بقينا 16 عاماً نمرّ عن باب الرحمة المغلق بإرادة المحتل وبضغطه دون أن نبادر إلى تغيير هذا الحال.
لقد خسرنا كثيراً حين سلمنا باغتصاب شرطة الاحتلال للخلوة الجنبلاطية في صحن الصخرة وبتحولها إلى نقطة ثابتة لشرطة الاحتلال، بل وبات اسمها "مخفر الشرطة" في صحن الصخرة، وحين تُجري فيها أعمالاً غير معروفة تصدر بيانات هي أقرب للتبرير تقول لنا إن هذه الأعمال "صيانة لشبكة الكهرباء" و"تركيب جهاز إطفاء متقدم"، وكأن ما اغتصب قبل عشرٍ أو عشرين من السنوات بات طبيعياً، وبات ترميمه حقاً مكتسباً، وأعمالاً لا يجوز استغرابها ونقدها، وبات من ينتقدون ذلك ثلة من "الجهلة ناقصي المعلومات يقدمون روايات من نسج خيالهم"، بل بات من يحرقها مارقاً عن الصف الوطني تخرج ديباجات تعمل بالمنطق الافتراضي تؤكد أن من أحرقها هو المحتل نفسه في تطبيق جماعي شديد البلادة الذهنية لمبدأ "فتش عن المستفيد".
ولا بد في الوقت عينه أن نقول أن أبرز ما حققناه من إنجازات لحماية الأقصى كان قبل كل شيء إنجازاً على مستوى الوعي ترجمته الإرادة ووحدة الصف، فمخطط الاستيلاء على "الفضاء التحتي" كان ليمر لولا أن إمكانية إجهاضه أُدركت والتُقطت، وتوفرت الإرادة السياسية والجهود العملية لإجهاضه، فعُمّر المصلى وبُلط سطحه وفُتحت البوابات العملاقة في جهته الشمالية وجُهز الدرج العملاق المفضي لها، وحين توفرت إرادة شد الرحال ومصاطب العلم والرباط لتقف في وجه التقسيم خمس سنواتٍ كاملة قبل ضرب مؤسساتها.
حين حاول نتنياهو فرض التقسيم الزماني في 2015 وإغلاق الأقصى في وجه المسلمين تماماً خلال الأعياد اليهودية، كان هناك إدراك عند الجميع بأن ممارسة مقدارٍ بسيط من القوة كفيلٌ بردعه، وبادر أفراد أفذاذ لترجمة هذا الإدراك فجاء ضياء التلاحمة ومهند الحلبي واستمر من بعدهم الطريق. في باب الأسباط 2017 أراد المحتل أن يضع الأقصى تحت سيطرته الأمنية عبر البوابات، لكن الوعي بأنه لا يقدر على فرض ذلك هو ما سمح بالوقوف ووحدة الصف، بل إن الوعي سمح بابتكار وسيلة الاعتصام على أبوابه وهي عكس الأمر الشرعي الذي يحض على الصلاة فيه.
في شهر 2-2019 فُتح باب مهم لتصحيح ما كان مسلماً به، فما تمكن الاحتلال من فرضه على مدى 16 عاماً كان قلبه ممكناً، فعاد مصلى باب الرحمة عامراً بالمصلين والمعتكفين حين عاد فجأة إلى صدارة الوعي بحادثة تغيير القفل، وبات حسم الصراع عليه ملحاً لقطع الطريق على مطامع التقسيم المكاني.
اليوم نشهد حالة مشابهة في الاقتحامات والتقسيم الزماني، بات هناك فترة تسمى "فترة الاقتحام الصباحية" وكأن الاقتحام فيها مباح وفي غيرها ممنوع، وبات وعينا يألف الاقتحام اليومي ولا يستفزه، وهذا ما يعول عليه الاحتلال، وبات طرد المعتكفين معركة تخص ثلة قليلة من الوافدين من خارج القدس، فما دام الاعتكاف مسموحاً في العشر الأواخر فـ"ليش المشاكل؟". أترى يا رعاك الله نوع المنطق الذي نمارسه هنا؟ نحن نسلم بحظر الاعتكاف في كل ما سوى العشر الأواخر، بل ونرى في محاولة استعادته "مشاكل". لم تعد المشكلة أن ضابط الشرطة يقرر اعتكافنا بحركة من يده أو إيماءة برأسه، باتت المشكلة أننا نحاول تغيير ذلك.
اليوم ها هو الأقصى يقتحم في أيام العشر الأواخر، دون وجود أعداد تردع هذا الاقتحام، وها هو اقتحام "يوم القدس" بالتقويم العبري تدعو له جماعات الهيكل على أوسع نطاق، فهو سيأتي في 28 رمضان، بعد أن يكون رمضان انتهى في وعينا عملياً بعد "الجمعة اليتيمة" وليلة القدر، حين يكون الأقصى فارغاً إلا من بضع عشراتٍ أو مئات. إن سلمنا أن علينا أن نواصل ممارستنا العادية رغم التحدي السافر والمعلن بالعدوان على الأقصى صباح يوم الأحد 28 رمضان فحينها نكون خسرنا مساحة جديدة، فما نخسره على مساحة الوعي سيترجم على الأرض سريعاً، فعدونا يرى في تهويد الأقصى أجندة مركزية لا يدخر فيها جهداً، ولن يقصر في استثمار أي هفوة أو مساحة نفتحها له.
لامبالاتنا تجاه هذا الاقتحام-إن حصلت كما تقول المؤشرات حتى الآن- سندفع لها ثمناً واضحاً، وحتى لا يكون هذا مجرد تهويل إنشائي فهناك ما هو واضح منذ اللحظة:
أولاً: على مدى سنواتٍ ثلاث من 2019 وحتى 2021 ستأتي هذه الذكرى في العشر الأواخر من رمضان، ولذلك يخوض الاحتلال وجماعات المعبد مواجهتهم عليها من الآن، فإن كرسوا قدرتهم على الاقتحام الواسع في العشر الأواخر من الآن بات الطريق ممهداً أمامهم في السنتين القادمتين، أما إن أغلقناه أمامهم بالرباط فقد باتت مهمتهم أصعب لعامين قادمين.
ثانياً: لم يبتلع الاحتلال حتى الآن الإذلال والتركيع الذي تعرض له في هبة باب الرحمة، إذ أنه سجل في هذه الهبة أول تتسليمٍ مسبق بعجزه عن مواجهة الجماهير، فتركها تَفتح الباب دون رصاصة بل دون قنبلة غازٍ واحدة، ولأن المحتل غير معتاد على التسليم لهذه المعادلات فهو لم يتوقف عن التحايل لقلب نتيجة هبة باب الرحمة، وهناك مؤشرات كثيرة تقول إنه سيستأنف تحايله هذا بعد رمضان، والموقف من اقتحامات العشر الأواخر مؤشر حيوية مهم ممكن أن يبني عليه لاستئناف هذا التحايل أو وقفه تجنباً لإذلال جديد.
في المحصلة، إن اقتحام 28 رمضان محطة مهمة للمواجهة لهذه الأسباب، ولامبالاتنا تجاهه مقتل سندفع ثمنه، أما تصدّينا له ووقوفنا صفاً واحداً لمنعه فسيعزز ما كسبناه وسيقطع الطريق على إعادتنا إلى الخلف عما حققناه في هبة باب الرحمة، والقرار بأيدينا جميعاً، هل نعتكف من مغرب السبت 27 رمضان لنمنع اقتحام صباح الأحد 28 رمضان، أم نعود إلى بيوتنا ونبدأ تعزيلة العيد.