الأغوار الشمالية المحتلة- خاص قدس الإخبارية: بجانب خيمته، جلس متلثماً بالكوفية المبللة بالمياه المثلجة في بقعة صغيرة من الظل - وقد وصلت درجة الحرارة نحو 40 درجة مئوية - تارة عينه على ساعة يده، وتارة على الطريق الترابية الوعرة.
"تأخروا هذه المرة" يقول، يأتيه سؤالاً محاولاً طمأنته "ربما لن يأتوا اليوم؟". يضحك ويبادل طفلته المزحة التي سمعها لتوه، "مستحيل أن لا يأتوا، لم يفعلوها من قبل".
للمرة الثالثة على التوالي، يُنذر الاحتلال أهالي حمصا الفوقا بنيته إخلائهم مجدداً ولمدة ثلاثة أيام بلياليها. محمد أبو كباش هذه المرة سيترك كافة مواشيه هنا، كما واتخذ القرار الأصعب على الإطلاق مع ارتفاع درجات الحرارة والخوف من فقدان أحد أفراد أسرته، "لن يخرج أطفالي من البيت في هذه الأجواء". جمع أطفاله الخمسة، قبلهم وودعهم، وأوصاهم أن يُخيفوا الخوف إذا حضر، وأغلق باب الخيمة خلفه.
إلا أن جنود الاحتلال اكتشفوا همسات الأطفال سريعاً عندما عادوا لتفتيش الخيام للمرة الثانية. اقتادوهم معهم في الجيبات العسكرية، حيث احتجزوهم لساعات طويلة تحت الشمس، وأمام بنادقهم، وأصوات المدفعيات وإطلاق النار تتواصل في المحيط.
يقف محمد عاجزاً غير قادر على الوصول إليهم، "الساعة الواحدة والنصف ظهراً، درجة الحرارة تعدت الألف.. كيف أخرج أطفالي معي في العراء وفي هذه الأجواء، فاخترت الخيار الأصعب من بين الخيارات التي كلها صعبة علينا"، يروي محمد لـ"قدس الإخبارية".
منذ 12 أيار، يقوم جيش الاحتلال بإخلاء أهالي خربة حمصا الفوقا في الأغوار الشمالية المحتلة، والبالغ عددهم نحو 98 فلسطينياً، ثلاثة أيام وعلى مدار ثلاثة أسابيع، بواقع 12 عملية إخلاء خلال شهرَي أيّار وحزيران، بهدف تنفيذه تدريبات عسكرية في المنطقة، ستكون حمصا الفوقا خلالها في مرمى قذائف الدبابات التي تتواجد في الجهة الأخرى من المكان.
خربة حمصا الفوقا واحدة من 23 تجمعًا فلسطينيًا في الأغوار الشمالية التي تشكل 75% من مساحة محافظة طوباس، والتي ومنذ عام 1967 ينفذ فيها جيش الاحتلال تدريباته العسكرية. حيث أقام 6 معسكرات تسيطر على 33% من مساحة المنطقة، إضافة لتسع مستوطنات – ثلاثة منها جديدة أقيمت عام 2018 على مساحة 160 ألف دونم.
داخل "تريلا" نام أطفال محمد الخمسة بعيداً عن خيمتهم في حمصا الفوقا، لا غطاء فوقهم سوى السماء، هم من بين 50 طفلاً تركوا ألعابهم في الخيام، وتوقفوا عن الذهاب إلى مدارسهم، رغم أن العام الدراسي يوشك على الانتهاء.
ففي الأسبوع الأول على الإخلاء، أخرج محمد أبو كباش (35عاماً)، أطفاله منذ ساعات الصباح، ثم عاد محاولاً البقاء في المكان ليحرس الخيام والأغنام، يبدو عليه التوتر الشديد، يمشي ذهاباً وإياباً، ويواصل مراقبة الطريق التي يتوقع أن تأتي منها قوات جيش الاحتلال وتجبره على الخروج. يقول، "يجبروننا هذا الشهر على ترك منازلنا والعيش في العراء، في كل أسبوع سيطردوننا ثلاثة أيام من المنطقة بحجة التدريبات العسكرية".
محمد وعائلته التي تستطيع العودة إلا بعد انتهاء التدريبات العسكرية، إذ يؤكد على أن المنطقة ستكون في مرمى القذائف وإطلاق النار، "سننام تحت السماء.. لا يوجد خيار لنا غير ذلك، ولا نستطيع قول لا أمام قوتهم".
في كل مرة يحاول أهالي حمصا الفوقا عدم الانصياع لقرارات إخلاء جيش الاحتلال، يختبأ الفتية بين الأغنام، محاولين البقاء للعناية بها وخاصة الصغيرة منها، وتحاول بعض النسوة البقاء داخل الخيام. رفض نابع عن حرص التمسك بالمكان، الذي يسعى الاحتلال إخلائهم منه منذ سنوات، فهم يعلمون الآن أن الخروج من هنا يعني ربما حرمانهم العودة إليه وإلى الأبد، ربما!.
إلا أن الاحتلال يواصل تفتيش المنطقة وإخراج كل من يحاول أن يبقى هنا. "لا نخرج بسهولة وبمجرد تسليمنا القرار.. دائما نحاول الرفض والتمرد والبقاء هنا، ولكنهم يعودوا مرة ومرتين وثلاث، وليكن إخراجنا من هنا مكلف وصعب عليهم!" يقول أحد أهالي حمصا الفوقا لـ"قدس الإخبارية".
خديجة أبو كباش، الأم لخمسة أبناء، حامل في شهرها الخامس، غسلت بيديها مجموعة من الملابس، وساعدتها طفلتها ديما بنشرهم سريعاً قبل قدوم قوات الاحتلال.
ترتبك خديجة مجدداً وهي تحاول ترتيب أغراضها، علامات التعب والارهاق بدت عليها بوضوح، فمنذ الساعة الثالثة فجراً وهي مستيقظة، تحلب الأغنام، وتصنع الجبنة، قبل اقتراب موعد الإخلاء.
تروى خديجة لـ"قدس الإخبارية"، "نقلنا أطفالنا منذ الصباح، والآن عادت السيارة لتنقلنا نحن.. لا أعرف كيف سأعد لهم الإفطار، لن نستطيع أن نطبخ شيئاً وسنكتفي بأكل المعلبات". تبكي أثناء كلامها، وتحاول ألا يرى أحد دموعها، ويحس بخوفها، وتحاول أن تبقى متماسكة أمام ابنتها.
الاحتلال يخلي بشكل مستمر أهالي خربة حمصا الفوقا، ولكن بالعادة يكون الإخلاء خلال ساعات النهار ولأيام محدودة يسمحون لهم خلالها العودة مساء والنوم بخيامهم، إلا أن هذه المرة اختلفت الإجراءات، ما يُنذر بمستقبل صعب ستواجه حمصا الفوقا وأهلها، تعلق خديجة، "لا أعلم إذا سيقومون بتنفيذ تدريبات عسكرية فعلاً، أحياناً يخرجوننا ولا ينفذون شيء، هم يهدفون للتضييق علينا وتشتيتنا حتى نخرج من المنطقة".
وتضيف، "أجبروا الفلسطينيين على الخروج من منازلهم عام 1948، هم اليوم يجبروننا على الخروج من منازلنا، نحن لا نعيش فقط النكبة، بل نعيش الانكسار ولكننا لا نستسلم".
يعتمد أهالي حمصا الفوقا ي على رعي الأغنام كمصدر أساسي، وقد استيقظوا منذ الساعة الثالثة فجراً، حلبوا الأغنام وأعدوا الجبنة استعداداً لنقلها وبيعها في أسواق مدينة طوباس القريبة.
حرب أبو كباش (40عاماً) يبين أن كل عائلة تمتلك 300 رأس غنم، ولكن لن تستطيع نقلها كلها من المكان، وستبقى الأغنام الصغيرة والتي بالعادة تموت جوعاً بسبب منع الجيش الإسرائيلي للرعاة العودة إليها وإطعامها.
مئات الدونمات اشتعلت فيها النيران خلال تدريبات الاحتلال العسكرية في الأسبوعين الماضيين، ما أدى لخسران الأهالي محاصيلهم التي لم يستطعوا حصدها من قمح وشعير. "في كل تدريب عسكرية يتم حرق آلاف الدونمات.. وخوفنا الكبير أن تقع قذيفة على إحدى خيامنا، وقتها ستحل مصيبة علينا، وسنخسر كل شيء" يقول حرب.
ويضيف، "الإسرائيليون يسعون لإخلاء المنطقة والاستيلاء عليها، لا يريدون فلسطينياً هنا، عام 2005 هدموا كل مساكننا، وقالوا إنها بحاجة لرخصة على الرغم أنهم لا يعطوننا رخصًا".
معاناة أهالي حمصا الفوقا، معاناة يومية تشمل أدق تفاصيل حياتهم بدءاً بالماء، يقول حرب، "كل عائلة وأغنامها تحتاج 2-3 تنك مياه يومية، يستغرق نقل كل تنك ساعتين.. على الرغم أن بئر العديلة يبعد خمسة دقائق فقط من هنا، ولكن الإسرائيليون استولوا عليه ويمنعونا من استخدامه".
بالقرب من إحدى البؤر الاستيطانية، يجلس أهالي حمصا الفوقا ليلاً نهاراً منتظرين انتهاء التدريبات العسكرية، "هنا أكثر مكان آمن، مستحيل أن تقع عليه قذيفة"، تقول خديجة.
فيما يشتكي الأهالي من تقصير الجهات الرسمية الفلسطينية التي لم تزرهم حتى في عرائهم، وقد اكتفت بمحاولة قضائية توجهت بها إلى المحكمة، يعلق محمد، "هذا كلام في الهواء، هم يعرفون أنها قضية فاشلة ولن يوقفوا التدريبات.. ما حد سائل فينا، ولا راح يسألوا فينا!".