صديقتي الأوروبية المحبّة للفلسطينيين، أكدت أن المسخ المسمى "لاجئا مزدوجا" ويموت في كل البلاد ليحيا في كلها، ومغضوب عليه ومحبوب أحيانا، ما هو إلا مبكى الطيبين وأضحوكة نفسه المرحة رغم القرف، وهو التناقض والانسجام معاً.
دليل ذلك أن المقص الذي اشتراه جدي من سوق حيفا، كان فضي اللون لا لمعة عليه، وهو جار الراديو العتيق في البيت العربي على أطـراف المخيم؛ عاش معلقا بمسمار يترنح من ضجيج إذاعة لندن.
ظل المقص حيـا يعتني بأظفار أفراد العائلة في الشقة الجديدة، التي أصابها القصف والتعفيش، ممارسا دوره كشاهد على النكبات، فيقص قصص الهجرات بجميع أشكالها وأطوالها وأحجام رؤوس أسيادها. لكن حبل الوصال انقطع بيني وبينه منذ ترددت في مخيلتي أصداء كلمات جدي الأخيرة قبل وفاته عن أغاني البلاد.
أذكر جيدا كيف كان البيت في حارة السهليّة مفتوحا للأعراس الفلسطينية والسورية، ترقص الجدات فيه حاملات سدر ثياب العريس، والمقص يمارس وظيفته بتقليم شعر صاحب الفرح الذي ستوخز دبابيس الأصدقاء أردافه.. أما الفتية فيوزعون الحلوى تزامنا مع عزف "القربة" ودعسات الدبيكة في قاع الدار. أتذكر كيف حاول أحدهم منعي من الفوز بصحن البوظة حين كنت في الربيع السابع، وكانت النكبة ابنة تسع وأربعين خريفا.
ولا أنسى عظمة "الخويّة" التي تعدها جدتي، فهي لذيذة جداً صبيحة جمعة تجمع المنكوبين الفقراء. وصوت "شحاطة" جدتي لا يزال عالقا في ذهني وهي تنقل صينية البطاطا إلى الفرن القديم قبل أن أجهز عليه بركلة "كابتن ماجد"، ولا أنسى صوت بابور الكاز وهو يطبخ الغسيل في حمامنا البدائي.
أما المفتول أو ما يعرف بـ"المغربية" فلا يحق لي نسيانه، فجدتي لأمي كانت تمضي يومين كاملين في تحضيره لنتناول الوليمة بربع ساعة. جدتي تلك فقدت ذاكرتها وعانت الويلات والقهر في المخيم خلال الحصار.
"اللجن" ليس للمفتول فقط؛ بل هو موضع حمام الفداعيس.. أجل؛ جدتي تسمي أصغر أطفال العائلة بـ"الفدعوس" وهو مصطلح فلسطيني خالص.
تبقبق الماء برغوة الصابون ويبكي الفدعوس في "اللجن" ليلمع جلده الطري بين أصابع جدتي فيروقها مشهد نظافته.
وكم ركض الفداعيس حين صاروا تلاميذ في مدارس الأونروا، ففرحتهم حقيقية لا تشبه لجوءهم المنمّق بأكذوبة الحقوق والواجبات، وتزدان جلاءتهم المدرسية بتفوق تحصد دول كبيرة ثماره اليوم.
لم أربح حينذاك في لعبة "الدحاحل" (الغلل)، بل كان أدائي تعيسا جدا باستخدام خدعة "السبل"، وعادة ما أضطر لاستدانة دحاحل جديدة فأخسرها وأدفع ثمنها من الخرجية في اليوم التالي، إنـها المقامرات الكبرى برائحة الحارة والنكبة.
وحتى لعبة "الطبّة" لم أكن موفقا بها، لكني عوضت فشلي بسرقة الصور والهرب إلى المنزل.
"سلوى ياسلوى"، "الطميمة"، "عيش"،"أنا النحلة أنا الدبور".. "الألوان" و"الإكسة"؛ هي ألعاب مارستها كافة ولم أحبب أيا منها، وعوضت كل ذلك حين رقصت على المقعد الخشبي في الثانوية جكارة بمدرب العسكرية الذي حاول إقناعنا أن تحرير فلسطين يجيء صيفا من باحة المدرسة بدرجة حرارة ستين مئوية!.
مارست كرة القدم وكأنها نشاط وطني وقفزت عن سور المدرسة عشرات المرات للعب المباراة التافهة.. إنـه تحرير فلسطين خاصتي بانعتاق عن مدرب العسكرية.
وفي تلك السنيّ بدأ أبناء الجيل احتراف استخدام السكاكين وممارسة عمليات الطعن في المواقف المحرجة أو التي يصنعونها بأنفسهم. وتشتهر مع إشهار سكاكين المخيمجيين مصطلحات الخاوا والزخامة والميازة والتقسيم والمراجل والسوكة.
كما راجت معها تجارات "الخبز يابس" و"بوري الفستق بخمسة" و"عرانيس ذرة بيضا هلق استوت" و"إلي عندو نحاس آظاان غرف نوم للبيع" و"كاتو تازا" و"تمر هندي وبورد" و"غزل البنات" و"سحلب حليييب" و"عنبر" و"بواري الرغوة"، وظل بياع الحليب ينادي "حياهييب" تحت القصف وكأنه في أكثر بقاع الأرض أمانـا.
والموثّق من سنوات تأسيس المخيم، أن أولئك المنكوبين كادحون وتوارثوا الهمّ والمهن الشاقة بحثا عن لقمة العيش، وصولا إلى النكبة الثانية.
الطعام وكل شيء صعب المنال، لا تصدقوا مزاعم يسر الحال فهي أكاذيب.. رغم ذلك عجزت متاعب الأرزاق عن تغييب نمط الحياة الحيوي ونضوج الروح الوطنية وعطائها.
"قطار التسوية" حورب من ذاك المكان.. وحيث السياج الفقير في المخيم بدءا من حارات الغوارنة وصولا إلى شارع المغاربة، لا يكاد يخلو بيت من شهيد في فترات الكفاح الفلسطينية؛ فالفدائيون القدامى ترعرع معظمهم في "منبع الجرذان" كما وصّفه شارون، وهم فئة قدمت الكثير واتّهمت بانتمائها لاحقا.
ويبدو أن التذكير بالمخيم مع ذكرى النكبة صار سنة المنكوبين، فالنكبة الأم طرحت عشرات النكبات كأغصان الشجرة، لتحاكي ما يسميها علماء النفس الطاقة الجاذبة، والمقصود بها هنا أن مواكبة الشخص لأفعال سلبية، يؤدي لتكاثرها مع توالد نتائج كارثية.
الغصن الأول أن جثامين الأبناء الشهداء اقتلعت من حيفا لتزرع في دمشق وتبكيها الأمهات بحرقة... أذكر جيدا ذاك الضابط النذل كيف صرخ بوجه إحدى النساء على شارع الثلاثين، وكانت أم شهيد تنتظر تشييع الجثمان... الآن كسر الغصن الأول.
وأما الغصن الثاني فإن العائدين أحياء من مسيرة النكبة حاملين شهداءهم المرتقين برصاص العدو الكلاسيكي، تنوعت طرق قتلهم بأيدي الأخوة الأعداء فيما بعد.. الآن كسر الغصن الثاني.
وعن أطول غصن مكسور من شجرة النكبة، فإن ما حل بأبناء عاصمة الشتات كفيل بجعل الفلسطينيين جميعا يمشون على وجوههم خجلا!، فما أصعب أن تتلفظ انتماءات وجراحا تنبذك ولا تعترف فيك، وما أوجع اجترار التجارب الفاشلة والتباكي الساذج والابتذال بالاحتفاء، والأصعب أن تتكافأ أدوار الفاعلين والنيام وتعطي النتائج الكارثية نفسها مع كل مرة!.
كان بإمكان فصائلنا الموقرة الذود عن المخيم من داخله وليس من مشروع دمّر، وهم ليسوا حياديين لكنهم يريدون تحييد المخيمات بعد كل ما جرى من تدمير وتهجير فيها، ولم يقدموا لذويهم الذين أنجبوهم والأماكن التي كبرتهم سوى الظلم التاريخي.
وفي هذا السياق أرجو ألا يذكر أحدهم أمامي عبارات من قبيل: "القضية على منعطف خطير، البوصلة، مرحلة مفصلية، الانشغال العربي"؛ حتى لا أضطر لتكرار السؤال الجدلي "من يحتل فلسطين؟!".
ومرورا على نكبة اليرموك التي هي اجترار النكبة الأم، فإن أولئك الموالين والمعارضين والدواعش لم يتعبوا يوما في بناء تلك المساكن قبل أربعة وستين عاما ليزعموا حق حرية التصرف بها، فحارة الفدائيين لم يعمّـرها أي منهم ولم يبكها أي منهم يوم دمرت!..... كان بإمكانهم جميعا السماح بإدخال الطعام كما أدخلوا الموت، لكن سحقا للأقدار، ينقطع الكلأ والماء ولا ينضب الرصاص.
الأزمة تلك في المخيم لا تحل بخروج طرف ودخول آخر فوق الدمار والخراب والقتل الذي أحدثه، فهذه "مداورة" أو إعادة تدوير في أحسن وضعياتها، تتعاقب من خلالها القوى الحاكمة ذات الطابع الواحد في الحكم القمعي الذي تتصارع عليه، وأما ثورة الشعب أو الشعوب فهي بريئة من كل ذلك والواقع الحالي يؤكد.
والأمور ليست بهذه الدرجة من البساطة والسذاجة، فمن جوّعوا وقتلوا وخطفوا وهجروا يجب أن ينالوا العقاب وأن تطاردهم لعنات الأمهات ومحاكم العدالة لو افترض وجودها فعلا.
والمخيم يحاول فرز اللاجئين لأصناف؛ الأول يتلقى الصفعات ويطالب بالحماية؛ والثاني يدافع عن الأول فيشاركه تلقي الصفعات والثالث متفرج والرابع يعبد الطغاة والغزاة. ذلك لأن النكبة شحنة "ميكس" سالبة موجبة، شيء للأمام وأشياء للوراء.
السالب أن اللاجئين أقصوا عمدا عن كل شيء من الصغيرة حتى الكبيرة، فغيبواعلى سبيل المثال لا الحصر عن القرار السياسي الفلسطيني وأضعف دورهم في الكفاح والنضال والمشاركة الوطنية والسياسية بكل أشكالها وأنواعها، وتراجع الحديث عن حقهم بالعودة إلى أرضهم فلسطين التاريخية التي يقاوم كل المقاومين الكيان الذي أقيم عليها، ولن أقف هنا على الأسباب وراء التراجع. وأخيرا وليس آخرا تجاهلت القوى الفلسطينية الفاعلة ما تعرضوا له في بلدان اللجوء القريبة والبعيدة، وكذلك أزيحوا عن الذكر ضمن قوائم الإبداع العلمي والثقافي والرياضي الفلسطينية، وتم تهميشهم في تقارير جهاز الإحصاء المركزي في رام الله، كما خففت نسبة مشاركتهم في المنتخبات الرياضية، وهذا كله غيض من فيض وهو تراكمي لم يأتِ دفعة واحدة.
ورغم ذلك فلا بأس بجرعة أمل؛ فالإقصاء يمكن أن تبطله التجارب ومخرجاتها بأن تقرع أبواب كانت تعتبر سابقا من المحظورات، كأن يتشكل لوبي ضغط يراعي هموم اللاجئين الفلسطينيين وله حواضن شعبية وأكاديمية مستقلة، وبعدها ينقذ التائهين، ثم الخطوة الحاسمة بكسر حواجز الخوف في وجه من يحاصرون اللاجئ ويمصّون دمه، ولعل تجربة مسيرات العودة إلى القرى المهجرة في الأراضي المحتلة، على سبيل المثال لا الحصر، يمكن أن تنطلق منها المعركة القانونية وتصير وسيلة اللاجئين لاستعادة هيبتهم المفقودة، فالعودة إلى الديار واستعادة تلك المكانة ومحو آثار النكبات التي حلت باللاجئ من الأخ قبل العدو ليست بالضرورة أن تكون على الطريقة الكلاسيكية التي يعتقد بها كثيرون.
وبالعودة إلى مصطلح النكبة فهو مصطلح يكثف الحالة المزرية تلك، وهو عربي فلسطيني خالص تصعب ترجمته حرفيا إلى اللغات الأخرى، وكأن له عينا ولسانا يدركان أن النكبة استمرار في الغياب والتلاشي، وهو بالضرورة يمثل تراجيديا الحديث عن الدياسبورا والتشتت بالبكائيات.
ويؤكد المصطلح نفسه مرارا من خلال التجارب الواقعية أنه كان يعبر عن نتيجة ما حصل بحق الفلسطينيين من جرائم ارتكبتها العصابات الصهيونية العام 48 انتهت بتهجيرهم عن ديارهم، ثم تحول في العقود الأخيرة إلى مصطلح يعبر عن فعل بحد ذاته يأتي من مصادر متعددة ونتائجه أسوأ من مجرد نكبة.
هذا في ما يخص النكبة ولا بأس باستخدام روايتها أمام العالم للظهور بمظهر الضحية وإبراز ما ارتكبه الأعداء من جرم بحق الشعب الفلسطيني فهو مفيد عاطفيا وتعاطفيا، وأما في ما يخص الجانب العملي للفلسطينيين أنفسهم فعليهم القيام بما هو أبعد من ذلك، وهو أن يقاوم الفلسطيني اللاجئ الهزائم والنكبات بالتكيف والنهوض والحفاظ على البقاء.
عندها يتولد مصطلح جديد يخص المخيم وفلسطين ولاجئيها، وهو اسم علم يعبر عن الحالة والإرادة والأمل، يمكن أن يطلق عليه "مقاومة النكبة".. أو بلغة الفلسفة والاصطلاح؛ "نكبولوجيا".