لم تتوقف إسرائيل عند خطة حل الدولتين وتقسيم فلسطين كما جاء في قرار تقسيم فلسطين عام 1947م، بل أنها في كل خطوة تتفرد بالقرارات بما يخدم مصالحها، وخلال الأعوام القليلة الماضية سرَّعت إسرائيل من تفعيل خيار الاعتراف بيهودية الدولة، وهذه الخطوة التي تتضمن المشروع الصهيوني بشكل أساسي، معتمدين في خطابهم الصهيوني على الواعز الديني من أجل ذلك ومن أجل جلب أكبر عدد من اليهود المؤيدين لهذا الطرح، بجانب انهم منطلقين من عقائد دينية مهدت لهم الطريق في أن يستوطنوا في فلسطين وأن يعززوا من تواجدهم فيها تحقيقًا لوعد الله كما يروون في نصوصهم الدينية بأنها أرض إسرائيل بالأساس ولا صحة للمصطلح الأول، ورغم الاختلاف في الآراء والتوجهات اليهودية حول سياسة المشروع الصهيوني والخطاب كذلك، إلا أن ثيودور هرتسل أزاح كل من يعترض هذا الطريق من خلال اعتماده على الحاخاميين الذين يختبئون تحت ثوب العنصرية والسياسة لتأييد فكرة المشروع الصهيوني الهادفة لدولة يهودية، وأن ما يجمع اليهود في نطاق موحد هو المشروع الصهيوني.
وقد حصلت تطورات جديدة في المشروع الصهيوني الرامي لتثبيت يهودية الدولة، وذلك من خلال الاقتحام المتواصل للمسجد الأقصى والذي لا يأتي من اليهود المتدينين الحاخاميين، بل هو تشجيعٌ من متدينين بنفوذ سياسية أمثال يهودا غليك مؤخرًا كما أوضحت وسائل الإعلام الفلسطينية، بجانب ان هناك وزراء امتشقوا هذا الدور بشكل كبير لكسب التأييد من المستوطنين في فلسطين، وهذا ما يبين أن الدولة تقام بمجهود بشري كما يفعل الصهيونيون في تمكين الدولة اليهودية وبسط سيادتها على الأرض الفلسطينية بشتى الطرق والوسائل.
وأي كيان استيطاني بحاجة للاستعمار ليأتي من خلاله وليس وحده بأن يكون في إطار منفِذ لإطار الاستيطاني الاستعماري الأوسع، والحالة الصهيونية انبثقت عن إطار بريطاني هدف لتشكيل المنطقة العربية في ضوء التمهيد لتحقيق متطلبات وعد بلفور في إنشاء الوطن القومي لليهود وأن يتم قبول إسرائيل من كافة الدول العربية والتي هي أساسًا يرتبط وجودها بوجود إسرائيل، والفكر الذي أُدخل في إنشاء الكيان الصهيوني هو المزج بين الأيديولوجي والديني لتحقيق المشروع الاستيطاني الاستعماري، ما يحقق النجاح للمشروع هذا من خلال توفر الدعم الواضح له، لذا كانت بريطانيا الاستعمارية أول الداعمين لها من خلال إقرار وعد بلفور والمساهمة في إقرار تقسيم فلسطين لكي يتم إنشاء الكيان الصهيوني، بجانب الدعم الأمريكي منذ العام 1967، هذان الدعمان شكلا العلامة الفاصلة في الحالة الصهيونية.
وفي المشروع الصهيوني تم تشريع قانونيّن مؤخرين يتمثلان في قانون العودة والجنسية الذي يمنح كل اليهود كمواطنين في الدولة وهذا ما يبين المسار العنصري الإسرائيلي المتبع، وهذا ما يعزز من الإنعزال في الحيز الجغرافي ذاتيًا وفكريًا، وبالتالي فإن سن القانونيّن من شانه أن يضمن عودة اليهود إلى إسرائيل كموطن لهم في أي وقت أرادوا، وبناء على هذا الأساس انطلقت كيانية الدولة الصهيونية .
وفي فترة الستينيات كان واقع الفلسطينيين مفصولٌ فصلاً كليًا من خلال إدراجهم تحت الحكم العسكري بخلاف الحكم المدني الذي طبق في أراضي عام 1948 والتي صنفت بأراضي دولة إسرائيل، بحيث فرض عليهم الدخول والخروج من بعض القرى الفلسطينية إلا بتصريح، بجانب أن أي معاملة رسمية لا تتم إلا عن طريق الحاكم العسكري للمنطقة، وأنذاك لم يكن هناك أي محاولة للدمج، وقد تم تطبيق الحكم العسكري بشكل واضح في الضفة الغربية بعد العام 1967م ما يبين عدم وصول إسرائيل إلى مرحلة حسم صنع الوجود مع الفلسطينيين.
ومع وجود الدولة الصهيونية لم تختلف وتيرة العنف المستخدمة ضد الفلسطينيين أي أنها ارتكبت المجارز البشعة للإمعان في الحرب الشاملة، ومع ذلك لم يتم حسم صنع الوجود، لذا كانت تسعى من خلال هذه المجازر أن ترهب الفلسطينيين لتهجيرهم وتشريدهم من قراهم في محاولة لحسم الوجود وإقامة الدولة اليهودية على الأراضي المسيطر عليها وهذا كان الجزء المهم في المشروع الصهيوني.
وفي إطار الحكم العسكري رفض موشيه ديان فكرة أن يتم وضع دائرة لإدارة شؤون الفلسطينيين داخل إسرائيل، أي لا يتم فرض الحكم العسكري داخل إسرائيل والحفاظ على النظام المدني، لذلك تعمَّد رؤية ثانية مختلفة كليا تتمثل في تهميش دور الفلسطينيين المناضلين وتجريدهم من مقاومتهم والحركات المقاومة، بالمقابل يتم تعزيز الاقتصاد للباقي من أجل خلق مصلحة اقتصادية في عدم مقاومة الاحتلال وخلق نوعًا من التعايش الاقتصادي الذي يحوي الشعب الفلسطيني تحت بنية الاحتلال، لذلك تم فتح المجال للعمال الفلسطينيين بأن ينخرطوا في الاقتصاد الإسرائيلي كعمالة رخيصة والذي يحيد التصور النضالي الفلسطيني وخلق شعب مطوع للاحتلال خاصةً في فترة الإدارة المدنية في الضفة الغربية.
وكان هناك محاولات لإيجاد شريحة من العمال الفلسطينيين المنتفعين من العمالة داخل إسرائيل، بجانب توضيح الفرق بين مفهومي النمو والتنمية، إذ أن النمو هو تحصيل حاصل لكن دون أن يكون هناك توجيه له، وتبنت إسرائيل في خطابها بانها سنحت للفلسطينيين بالنمو من خلال زيادة تعدادهم منذ العام 1967 وبناء العمارات والمباني السكنية والمؤسساتية، إلا أنها أقصت التنمية لكي لا يتم بناء مجتمع متكامل اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا ( غوردون، 298 ). وأكد على أن الاستعمار الاستيطاني معني بالفصل وليس الإبادة وهذا ما يعكس مضمون الخطاب الصهيوني الساعي لحسم صنع الوجود من خلال القضاء على الفلسطينيين، وبتالي فإن ما تم هدمه من مبانٍ فلسطينية خلال الانتفاضة الثانية جاءت كإجراء عقابي وتأديبي، لذلك فإن فرض نظام الغيتو من شانه أن يرفق العقوبات الاقتصادية المفروضة على الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال، وهو بالأساس يحافظ على كينونة الخطاب الصهيوني في أن النهج المتبع هو نهج صهيوني وليس استيطاني استعماري.
وفي ضوء الحديث عن قانون القومية اليهودي الذي أقره الكنيست الصهيوني في 18/7/2018، فهذا يعني اعتبار أن " أرض إسرائيل "، هي الوطن القومي لليهود، وعليه يكون قد حسم صراعًا مع كل المعارضين لسياسة الأحزاب اليمينية التي رأت ضرورة إدراج القانون لتحقيق أهداف المشروع الصهيوني في بسط السيادة على كامل الأرض وليس أجزاء منها، هذه الأحزاب انطلقت من الفكر الصهيوني الذي لا يرى إلا فلسطين كأرض لدولتهم بناءً على خطابات وتوجهات دينية، وقد كفل القانون هذا حقوق اليهود أينما ذهبوا من خلال ان إسرائيل هي محطتهم في أي وقت، ومنذ الأعوام السابقة وإسرائيل تطرح القوانين التي تضمن حقوق اليهود على الأرض لضمان وجودهم وبقاءهم فيها، وما ينتقص القانون هنا أنه لم يحدد حدودًا للدولة وذلك أنه يرى أن التخوم هي من تشكل هذه الحدود من خلال عملية التوسع على الأرض، والتي تؤدي لاحقًا إلى حسم صنع الوجود.
وقد أعطى القانون بموجبه حق الممارسة الطبيعية والثقافية والدينية والتاريخية للشعب اليهودي لتقرير، ما يبين أن الخطاب الصهيوني نابع من خطاب فلسطيني يسعى لتقرير مصير الشعب الفلسطيني الذي طرد من أرضه إبان النكبة عام 1948، وتقرير المصير في طرح إسرائيل يبين أنه لا يوجد قومية كما يتحدث عنها القانون والسيادة على الأرض ليست محسومة بعد، لذا قدومه على الأرض وطرحه للقانون جاء بغية تحقيق أهداف المشروع الصهيوني في إقامة الوطن القومي اليهودي، وهذه الأهداف انطلقت من الخطاب الديني الصهيوني الذي مهد الطريق للسيطرة على أرض فلسطين.
والقانون هو تجاوز واضح للفلسطينيين بناءً على قوانين سابقة منذ العام 1950 الذي أتاج عودة اليهود للأرض بجانب طرح قانون يمنع عودة اللاجئين الفلسطينيين لأرضهم، ولاحقًا فإن بقاء الفلسطينيين الذي بقوا في هذه المناطق مرهون باعترافهم بيهودية الدولة والقبول بإملاءاتهم وأن يكونوا كهوامش داخل حدود الدولة، كما ان القانون حيّد اللغة العربية كلغةٍ رسمية على الأرض بجانب اعتماد اللغة العبرية لكن لم ينهيها بشكل تام، وهذا ما تضمنه الخطاب الصهيوني والذي هو أساسًا إملاءات تجبر الجميع على الالتزام مستقبلا.
كما وأن القانون منح الشرعية للاستيطان والاستيلاء على الأرض الفلسطينية على اعتبار ذلك الهوية القومية للمستوطنين، بحيث تصبح وطنيته بناء على النشاط الاستيطاني الذي يسير فيه، وهذه النشاطات تصقل هويته ما يفرض الوقائع على الأرض لحسم الخلافات حول حدود الدولة، وذلك من خلال التوسع الاستيطاني والمصادقة على بناء المستوطنات والبؤر الاستيطانية، هذه العملية حظيت بدعم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، إلا أن نتنياهو منذ العام 2009 أتاح بالمزيد من المشاريع الاستيطانية وبناء المستوطنات وتوسعتها، والتي لا تتوقف على شروط معينة، إذ أن كل مستوطنة هي بمثابة مكانة حدود دولة لأرض إسرائيل، ونفي حق اللاجئين بشكل تام وتطويع الفلسطينيين من بقوا على الأرض لإملاءاتهم السياسية والاقتصادية والثقافية ضمن حدود دولتهم، وما عزز الخطاب الصهيوني والذي قوبل بالإيجاب أنه شرعن عملية الاستيطان لتغيير الوقائع على الأرض من خلال الاستيطان.
وبهذا فإن النظم الاستيطانية الاستعمارية تريد الوصول لمرحلة تنعت نفسها بانها دولة قومية، إلا أن إسرائيل ليست بالدولة الطبيعية وهي للآن تعمل جاهدةً على حسم صنع الوجود والوصول لبر الأمان من خلال إقرار قانون القومية لتجاوز الفلسطينيين وحسم صنع الوجود على الأرض لصالحها.