شبكة قدس الإخبارية

خاصبلا "هوية" ووثيقة سفر.. من يجمع "أبو هاشم" بوالدته المسنة

1
يحيى موسى

غزة - خاص قدس الإخبارية: لا يمكن تخيل شعور الأسير في آخر يوم له في سجون الاحتلال، فيكف إن كانت محكوميته تبلغ 22 عامًا؟، كحال الأسير المحرر إياد أبو هاشم (42 عامًا)، "وكأن عجلة الحياة عنده توقفت" فبسبب الاعتقال لم يستطع إكمال دراسته الجامعة، بحث عن وثيقة شخصية "هوية" وجواز سفر، ولا زال يبحث عنها ولا من مجيب سوى صدى صوته الذي يرتد إليه.

12 شباط 2019م، ألقى ابو هاشم نظرات الوداع الأخيرة على أسرى عاش بقربهم ومعهم داخل أسوار غيبته عن العالم طوال 22 عاماً من الاعتقال، حزم أمتعته، اقتربت لحظة الحرية، منعته إدارة سلطات سجون الاحتلال من توديع الأسرى اكتفى بإشارة الوداع من بعيد يلوح بها لهم ويردد: "سنلتقي قريبًا في القدس".

دقائق معدودة مرّت، وأصبحت المسافة بينه وبين بوابة الحرية قريبة، هناك كل شيء متوقع وكذلك تمديد الأحكام وقتل الفرحة، "ستعود إلى السجن".. قالها أحد ضباط الاحتلال للأسير أبو هاشم على أعتاب بوابة السجن، كصاعقة نزلت على قلبه كانت هذه العبارة، فوالديه ينتظران محادثتها هاتفيا وعائلته تنظم مراسم استقبال له على حاجز بيت حانون/ إيرز شمال قطاع غزة.

عاد كطائر مكسور الجناح، لكن هذه المرّة ليس إلى سجن النقب الذي قبل ساعات ودّع الأسرى فيه، بل إلى العزل الانفرادي بسجن عسقلان، لا ينسى أبو هاشم تلك اللحظة ويقول: "انقلبت فرحتي إلى حزن كبير، شعرتُ بالخوف على والديَ فهما لا يتحملان أي صدمات (..) انتظروني 22 عاما بفارغ الصبر، ليفاجأوا بالتمديد".

لكن وبعد ضغط الأسرى خوفَا أن يصيب أبو هاشم أي مكروه، طلبوا من سلطات سجون الاحتلال إعادته إلى أقسام الأسرى، وبعد خمسة أيام من العزل، عاد مرة أخرى، مثلت تلك العودة فرصة أخرى لوداعهم عن قرب وتبادل التوصيات والتهاني والعناق الأخير وقبلات الوداع التي وضعها الأسرى على جبين أبو هاشم، وبعد أسبوعين من التمديد أفرج الاحتلال عنه: "تركت الأسرى وهناك غصة في قلبي بالبعد عنهم رغم فرحة الإفراج"، يقول أبو هشام في حديثه لـ"قدس الإخبارية".

بعد الإفراج عنه بأيام وانتهاء مراسم الاستقبال والتهنئة التي أقيمت له في غزة، شارك أبو هاشم في وقفة التضامن الأسبوعية مع الأسرى بمجرد رؤيته لصور الأسرى بدأت قطرات الدمع تنساب إلى وجنتيه واحدة تلو الأخرى مشهد لم يتخيله أبو هاشم؛ لا يخفي السبب: "كنت أسيرَا بينهم نأكل ونشرب معَا نتحدث عن حياتنا، ولأول مرة أذهب للتضامن معهم، وهم في الأسر، لم أستطع حبس دمعي".

بداية القصة

يعود الأسير أبو هاشم في أعماق ذاكرته إلى (الخميس 13 فبراير/ شباط 1997م)، عقارب الساعة وكأنها تسير ببطء وتشير إلى العاشرة صباحا، يعيش ذلك المشهد وكأنه بالأمس: "خرجت من بيتنا برفح، إلى معبر رفح، وكنت أخطط لتنفيذ عملية طعن داخل المعبر، وبالفعل طعنت رجل أمن إسرائيلي وكانت إصابته متوسطة، وكما جاء بالتقرير الطبي الإسرائيلي فإنه أصيب بشلل نصفي".

على الفور اعتقلت قوات الاحتلال أبو هاشم، وقاموا بضربه واقتياده إلى مركز وموقع لجيش الاحتلال قريب من المعبر، ومن ثم ترحيله مباشرة إلى سجن عسقلان للتحقيق، وبدأت مرحلة صعبة من التحقيق استمرت 70 يومًا متواصلا.

التحقيق

أثناء التحقيق كل شيء مباح لدى الاحتلال، كل أشكال التعذيب تستخدم، لا رحمة ولا إنسانية، داخل أقسام التحقيق كان الاحتلال يرسل "العصافير"؛ كما يفعل مع كل أسير، يحاولون "انتزاع الكلمة أو المعلومة من فمّ الأسد" لتوجيه تهمة ضده، أو إهانته بالشتم والتعذيب لاستخراج المعلومات بطريقة استفزازية، كانت فترة التحقيق قاسية لا يمكن نسيانها".

تركزت أسئلة مخابرات الاحتلال حول دوافع أبو هاشم لتنفيذ العملية، والجهة التي تقف وراءه، لكن ما أخفاه عنهم يقوله الآن: "كنا كشعب فلسطيني بغزة نمرّ من مدينة إلى أخرى عبر حواجز ومعابر يسيطر عليها الاحتلال، يمارس الإهانة والاستفزاز من قبل جنوده، هذه من أهم ما دفعني لتنفيذ العملية بعدما تعرضت للاستفزاز والإهانة من قبل جنود الاحتلال".

بلا "هوية"

22 عامًا مضت ولا يزال أبو هاشم بدون هوية (وثيقة) فلسطينية؛ كل حلمه أن يعترف به ويصبح له رقم وجواز سفر، ليرفرف كطائر حر إلى دولة قطر لاحتضان والدته لأول مرة بعدما فرقت سجون الاحتلال بينهما، يتمنى أن يقبل يدها ورأسها، يتأمل في تعرجات وجهها التي غيرتها السنون.

لأبي هاشم قصة مع الوثيقة الشخصية وجواز السفر، تجسد قصة أخرى يعاني منها كل لاجئ فلسطيني يعيش في الشتات ويريد العودة إلى فلسطين المحتلة، يقطر الحزن من صوته "نزح أهلي إلى دولة قطر قبل 45 عامًا وبقوَا فيها حتى اليوم (..) ليس لديهم جنسية هناك، لأنهم يحصلون على إقامة مؤقتة تتجدد كل عام".

لكن أبو هاشم عاد مع والدته في زيارة لأقاربه في غزة عام 1994م، لم يتجاوز عمره 20 عامًا حينها، لا يزال يحط بكلماته عند تلك المدة: "بقيت في غزة بمفردي عند أقربائي، وعادت والدتي إلى قطر، والتحقت بتخصص إدارة الأعمال بجامعة الأزهر، لكن لم أكمل التخصص بسبب الاعتقال".

حتى في الأسر حاول أبو هاشم أن يحصل على تلك الوثيقة، بأن يضمن الاعتراف به، فهو يدرك أن الوثيقة ستكون بوابة عبور إلى قلب والدته، قبل أن تكون بطاقة عبور لجسده عبر المعابر، لكن الجواب دائما كان يصله أن التنسيق بين السلطة والاحتلال بقضية لمّ الشمل متوقف منذ عام 2009.

مضت سنوات الأسر، وبقيت غصة في قلبه، أسير كل همه أن يحصل على وثيقة شخصية، ليعود إلى حضن عائلته المتواجدة في قطر، يكمل والحزن يتخفى بين ثنايا صوته: "أمنيتي أن يتم العمل على استخراج بطاقة هوية لي أو جواز سفر يمكنني من السفر والاجتماع بأهلي بدولة قطر، حيث تربيت هناك منذ نشأتي الأولى إلى أن حصلت على الثانوية العامة".

يتمنى أبو هاشم أن تساعده المؤسسات الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية لتحقيق أمنيته، فوالدته الثمانينية تنتظر احتضانه لأول مرة منذ 22 سنة، "لم أستطع رؤية أخوتي ووالدتي طيلة مدة اعتقالي سوى مرة واحدة عندما جاءت لزيارة قبل عام 2000".

"متشوق لرؤية والدي وأخوتي، لتقبيلهم، لمعانقتهم، فالإنسان بعد كل هذه المدة من الاعتقال يحن لأهل بيته (..) مسألة صعبة على قلب الإنسان أن تمر هذه المدة دون رؤية الأهل وأن يحدث ذلك".

كان يطفئ نار الشوق التي أضرمتها سنوات الفراق والأسر في قلبه من خلال الرسالة المكتوبة عبر الصليب الأحمر يعبر فيها عن حبه وأشواقه لهم، يطبع تلك الأشواق بكلماته التي تخطها يده، فضلا عن المكالمات الهاتفية خلال السنوات الأخيرة".

في السجن

كيف أمضى أبو هاشم مدة الأسر؟ حياة فرضت على الأسرى عمومًا، يستيقظون وينامون بين القضبان، معزولون عن الخارج، "بعد انتهاء التحقيق انتقلت لسجن عسقلان وهناك أمضيت فيه ثلاث سنوات، ثم انتقلت إلى سجن نفحة حتى عام 2014، وبعدها انتقلت إلى سجن النقب".

ويستذكر أبو هاشم: "بعد خمس سنوات من الأسر جاءت والدتي لزيارة كانت هي الزيارة الوحيدة لها، شعرت بشيء غريب، لم أنس ذلك الشعور بأن تأتي والدتي وتقطع مسافة كبيرة متحملة عناء السفر والإجراءات الصعبة وتراني".

حصل أبو هاشم في الأسر على دبلوم الدراسات الإسلامية، وبكالوريوس في التاريخ، ودورات في التنمية البشرية، وسند في تلاوة القرآن الكريم، وقبل أن ينتهي حديثه قال: "لو لم يتعرض الإنسان خارج الأسر لهذا الجو من الضغط والثبات والتحدي لن يحصل على هذه التجربة رغم معاناتنا في السجن، بأن يكون الأسر جزء من حياتنا وليست الحياة جزء من السجن".