جنين- خاص قُدس الإخبارية: جاهدًا يحاول "أحمد" أن يذكّرها بنفسِه، "أنا ابنك حمادة" يأتي صوته حنونًا باكيًا ومترجيًا "طيب احكيلي إنك بتعرفيني يمّا"، فترد هيّ بصوتٍ متثاقل وعلى بعد سنوات غياب وحواجز وقضبان: "إنت مين؟!".
فمنذ 6 حزيران 2003، يعتقل الاحتلال الأسير أحمد قاسم أبو عواد من الإسكان الشرقي بجنين شمال الضفّة، حين كان في العشرين من عمره، حتى أصبح اليوم عمره 36 عامًا، وهو الابن المدلل للعائلة، وأصغر إخوانه التسعة.
جاء اعتقاله على خلفية عمله المقاوم ومحاولات عمليات إطلاق النار، إضافة إلى تجهيز الفدائيين، وفي اليوم الثاني لوفاة والده، اقتحمت قوات الاحتلال منزله، صادرت أغراضه وعبثت بمحتويات البيت، وانتزعوه من حضنّ أمّه، وحكم بالسجن 23 عامًا.
16 عامًا فاصلة حتى الآن عن الحضن الأخير في المنزل، حوّلت الطالب المتفوق في دراسته آنذاك، إلى "خيرة شبان سجن النقب"، الذي يعلّم الأسرى قواعد اللغة العبرية، ويقدّم محاضرات لهم عن تاريخ فلسطين، وبالرغم من محاولاته المتكررة لاستكمال دراسته الجامعية، لكن إجراءات الاحتلال والظروف كان تحول دون ذلك.
كان يحلم "أحمد" بإكمال دراسته الجامعية بتخصص العلوم السياسية قبل اعتقاله، إلا أنه التحق لاحقا وهو في سجن "ريمون" بجامعة القدس المفتوحة، ولم يتبق له سوى ساعات ليتخرج، حتى أقدمت سلطات الاحتلال على نقله إلى معتقل النقب، ما أجبره على التوقف عن الدراسة، وهو ما تكرر أيضًا عند دراسته بالجامعة العبرية وبجامعة الأقصى بغزة، وأصبح يعيش داخل الأسر بقلق وتوتر نتيجة لذلك.
على مدار سنوات، عانى الأسير أبو عواد، من ظروف صحية صعبة، جراء أمراض مزمنة، والتهابات حادة في قرنية العين، ويعاني من مرض في الكلى، والروماتزم، إضافة إلى النقرس والقولون والمعدة، ماطلت سلطات الاحتلال في إدخال نظارته الطبية وإجراء عملية جراحية له، وأقدمت على نقله من سجن لآخر لمراتٍ عديدة.
الحالة الصحية الصعبة، لم يعاني منها أحمد فقط، لكنّ الأصعب هو انتكاسة والدته وتدهور حالتها، وعدم قدرتها على السفر، مما منعها من زيارته منذ 4 سنوات، في حين تزوره شقيقته "أسماء" وتتابع أخباره باستمرار، يبثّان في روح بعضهما الأمل والقوة والعزيمة التي لا تغيب عن أبناء البيت المناضل.
تقول شقيقته لـ "قدس الإخبارية": "والدتي تعاني ظروفًا صحية صعبة بعد إصابتها بـ "ألزهايمر"، إضافة إلى صعوبة حالتها النفسية والبدنية وعدم قوتها على المشي والحركة، وهو ما يعني توقفها عن زيارة أحمد، أكثر أبنائها قربًا من قلبها، وتعلقًا بها".
حاول أحمد برغم أسوار سجنه وحرمانه من رؤيتها أن يساهم في تخفيف ألمها، عبر طبيب ألماني يشرف على حالتها حتى تستعيد ذاكرتها، لتتعرف عليه مرة أخرى، لكن محاولاته الحثيثة لم تفلح بذلك أيضًا.
ذات مرة، جاء صوت أحمد باكيًا من سماعة الهاتف، "حجة هدهد، أنا ابنك حمادة، احكيلي إنك بتحبيني، بس إحكيلي إنك بتعرفيني يمّا، أنا ابنك اللي غلبتك 13 سنة وإنتي تلفي من سجن لسجن، ذاكرة هذاك الموقف طيب بتتذكري لمّا ()، احكيلي إنك عرفتيني، حبيبتي يمّا".
أما هي، فتطلب من المحيطين بها أن ينهوا الحديث معه لأنّها لم تعرفه: "إنت مين؟ مين هذا، سكتوه عنّي". وينتهي الحال بالبكاء.
شقيقته "أسماء- أم عبد الرحمن"، قالت في حديثها لـ"قدس"، إن والدته لم تنساه بشكلٍ كامل، أحيانًا لا تتعرف عليه، وأحيانًا تقضي يومًا بأكمله وهي تسأل عنه، في المرة الأخيرة سألتهم: وين أحمد؟ ليش ما أجاش لهسا؟" أجابوها أنه لا زال في عمله حتى رقّ قلبها ونامت.
وأضافت، "أحمد هو جرحنا العميق، فالاعتقال طال، نراه يكبر خلف القضبان، يتغير شكله ويذهب شعره، ابن العشرين أصبح بعد منتصف الثلاثين، آخر مرة لمست بها أصابعه كانت قبل 8 سنوات، اشتقنا لاحتضانه () نأمل وندعو أن يخرج ليحضن والدته خارج أسوار السجن، وأن يجمع الله بينهما بلقاء قريب، فحالتها الصحية صعبة وغيابه عنها يزيد عليها ذلك".
وأشارت شقيقته "أسماء" إلى أن العائلة تتحفظ على الطلب من أي جهة كانت بشأن أوضاع أحمد داخل السجن، "لم نتواصل مع أحد سابقًا ولم يتصل بنا أحد من المسؤولين ولا معلومات عن إمكانية تحرره، لكننا نحسب هذه التضحيات في سبيل الله والوطن، وهكذا كان سليل عائلته المقاوِمة".
المعنويات دائمًا مرتفعة برغم الأسى، والنجاحات تتزايد، فأحمد يُعدّ الأول والأمهر في إجادة العبرية على مستوى السجن، كما يصفه عددٌ ممن عايشوه داخل الأسر بأنه ذكي ومثقف، ومبدع، ومفكر، وقارئ نهم، يتابع الجرائد العبرية والإعلام العبري بقوة واهتمام، ويطمح بالمزيد".
والأسير أحمد قاسم أبو عواد، ولد في 1 يناير 1984، من جنين، أعزب، ويقضي حكمًا بالسجن 23 عامًا، قضى منهم 16 عامًا، لكن بقيت كلمته الشهيرة التي حفظها عنه رفاقه: "بتهون يخوي".