رام الله-خاص قُدس الإخبارية: مضرجا بدمائه كان، بعد أن اخترقت رصاصة متفجرة رأسه، حمله الشبان سريعًا على أكفهم يصرخون "شهيد..شهيد"، طُبعت الملصقات التي تنعى الشاب الشهيد محمد البرغوثي، وفي المستشفى يتهامس الجميع بعيدا عن أم "الشهيد"، بينما هو يخضع لعملية جراحية، وبالداخل كان محمد يصارع الموت ويتشبث بالحياة.

في الثالث من كانون الثاني العام الماضي، وصل خبر استشهاد الفتى مصعب التميمي للشاب محمد البرغوثي (20 عامًا) بينما كان في جامعة بيرزيت، كان وقع الخبر صعبًا عليه، فمنذ طفولته جمعته علاقة صداقة مع مصعب.

في اليوم التالي، خرجت العائلة من قرية عابود شمال غرب رام الله للمشاركة في تشييع مصعب، إلا أن الطريق الرئيسي أغلقه جيش الاحتلال، سلكت العائلة عدة طرق التفافية حتى وصلوا لبلدة "دير نظام".

الشهيد الحي

إلى جانب جثمان صديقه، كان محمد يقف في تشييعه، وعندما بدأت جموع الناس بموارته الثرى، كان معهم يشارك على عجل، عقب ذلك توجه محمد إلى مدخل القرية حيث اندلعت المواجهات، وكان يتقدم الصفوف، لم ينتبه لمجموعة جنود يقفون على مسافة قصيرة منه لا تتجاوز 15 مترًا.

أطلق جندي إسرائيلي رصاصة أصابت مباشرة رأس محمد، سقط أرضًا وهجم جنود الاحتلال عليه لاعتقاله، لكن عندما شاهدوه وكأنه يلفظ أنفاسه، تركوه لتقديراتهم بأنه سيلتحق بالشاب الذي قتلوه قبله.

سريعا، هجم الشبان وحملوا محمد والدم يغطيه، منهم من كان يعتقد أن محمد استشهد. نقلوه في جيب مدني، ووصل لمستشفى الاستشاري بمدينة رام الله خلال خمس دقائق، ولم يتبقى في جسده سوى وحدتين من الدم.

كانت والدة محمد تشارك أم الشهيد مصعب حزنها عندما جاء أطفال يصرخون "الجيش طخوا واحد اسمه محمد"، انقبض قلب أمه، وقالت إنه ابنها، خرجت مسرعة حتى التقت بزوجها، حاول أن يهدأ من روعها، وأخبرها أن محمد بخير والإصابة في ساقه، بحسب ما أخبره الشبان، وذلك خوفًا على حياة والده، لأنه خضع لعملية جراحية عقب تعرضه لجلطة قبل نحو شهر فقط.

كان مسلم شقيق محمد يبكي ويصرخ "محمد مش بخير" ويكررها. توجهت العائلة نحو المستشفى، وفي الطريق تلقى خال محمد اتصالًا من أحد الشبان أخبره أنه إصابة محمد خطيرة جدا وهناك من قال إنه استشهد، إلا أنه حاول إخفاء الخبر عن شقيقته.

وصلت العائلة، بينما كان محمد يخضع لعملية جراحية نجح الأطباء فيها بوقف النزيف. كان الجميع في الخارج يتهامسون بعيدًا عن أم محمد، وبعضهم كان يواسيها وزوجها. خرج الأطباء وأعلنوا وقف النزيف، وتم نقله لغرفة العناية المكثفة ووضعه على جهاز تنفس اصطناعي، ولمدة شهر لم تبرح والدة محمد مكانها من المستشفى، وبقيت إلى جانب ابنها، تدعو له وتطلب منه أن يتعافى ويعود إليها سريعًا.

الطبيب: تحطمت جمجمته ونجى بأعجوبة

يقول الطبيب المختص في جراحة المخ والأعصاب خلدون عمرو لـ"قُدس الإخبارية": إن رصاصة متفجرة اخترقت الجبهة الأمامية لرأس محمد، نجم عنها تحطم كامل لمقدمة الجمجمة، وإصابة مباشرة للدماغ وتمزق الطبقة الحامية له، ونزيف شديد بالدماغ".

أجرى الطبيب عمرو، عملية ثانية لمحمد بعد أربعة أيام من إصابته، وهي تحرير الدماغ، لأن الدماغ في مثل تلك الحالات يكون منتفخًا ما يسبب ضغطًا على الدماغ، كما تم تنظيف وإزالة الشظايا، إلا أن بعضها ما زال موجودًا لأن إزالتها يسبب ضررًا أكبر.

بعد نحو عشرة أيام استيقظ محمد، ولم يكن في كامل وعيه بسب تضرر الدماغ، وكان يعاني في البداية من ضعف في القدرة الحركية والسمعية والنطقية، وحتى قبل خروجه من المستشفى بأيام حتى استعاد النطق، وكانت عائلته تساعده وتعطيه قلمًا وورقة حتى يتواصل معهم، وعندما كان أصدقاؤه يزورونه، يكتب أسماءهم على ورقة، لكنه كان قبل كل اسم يكتب كلمة "الشهيد".

خرج محمد بعد شهر من المستشفى، نتيجة تحسن وضعه الصحي، لكن العائلة حملت معها مجموعة من التعليمات الطبية، نظرا لتحطم جمجمة نجلها وحساسية وضعه حتى يخضع لعملية ترميم، وتلخصت بعدم القيادة بسرعة للحفاظ على الدماغ، يمنع عليه الركض أو ممارسة الرياضة، يتجنب حدوث التهابات أو الإصابة بالزكام.

تقول والدة محمد لـ"قُدس الإخبارية": لعامٍ كامل عشنا فيلم رعب، كنا خائفين على محمد، وكلما كان يلعب مع أخوته أمنعه، وعندما يخرج من المنزل أهاتفه وأطلب منه العودة، وإذا وقف على عتبة المنزل أراقبه، كنت أخشى من أي حركة من شأنها أن تؤذي الجبهة الأمامية من رأسه، كون الدماغ لا يغطيه سوى الجلد".

أما محمد يقول: "لم يكن سهلًا عليّ أن أعيش عامًا كاملًا على هذا الحال، مرت الأيام والأشهر بطيئة متثاقلة، كنت أخرج من المنزل وأشاهد أصدقائي يلعبون كرة القدم، الرياضة التي أمارسها توقفت مجبرًا عنها، أنتظر العملية بفارغ الصبر، لأعود كما كنت".

في الواحد والثلاثين من الشهر الماضي، أجرى الطبيب خلدون عمرو عملية إعادة ترميم عظام الجبهة الأمامية لجمجمة محمد، باستخدام تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، وهي لأول مرة تستخدم في فلسطين، إذا يتم تصنيع الجزء المفقود من الجمجمة بناء على مواصفات تطابق جمجمة المريض، وتلك القطعة جاءت من فرنسا.

عاد محمد لحياته، رغم الأثر الكبير الذي تركته الرصاصة على رأسه وفي ذاكرته، لكنه لم يفقد يومًا الأمل، عاد لفريق الكشافة بقريته، ويرغب بأن يعود لممارسة كرة القدم وكل ما ابتعد عنه خلال العام، كما يخطط لاستكمال دراسته الجامعية.